في ردّ على تحركات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرامية إلى الحد من الهجرة، انشغل خبراء الاقتصاد والمراقبون بالبحث فيما إذا كانت الهجرة تضر بالمواطنين المولودين في أميركا. وقد أشرنا من قبل إلى أن أدلة كثيرة تظهر أن المهاجرين لا يتسببون في تراجع أجور الأميركيين، بل إن المهاجرين، الماهرين منهم على وجه التحديد، يقدمون إسهامات مالية إيجابية، ويندمجون بشكل سريع في الثقافة الأميركية. وقد أشرنا إلى أن الهجرة غير الشرعية قد تراجعت بشكل كبير خلال العقد الماضي، وأن موجات الهجرة التي تأتي في الوقت الراهن إلى الولايات المتحدة تميل إلى أن تكون أفضل تعليماً بكثير من الموجات السابقة. وتُظهر تلك الأمور بوضوح أن الهجرة لا تشكل خطراً على الأميركيين المولودين على الأراضي الأميركية. ولكن ثمة شيء قليل هم من ينشغلون به ألا وهو إجراء دراسة اقتصادية حول إيجابيات الهجرة تُجيب على سؤال: إذا كان المهاجرون لا يشكلون خطراً، فهل يمثلون ضرورة اقتصادية؟ فذلك سؤال مهم يجب توجيهه، لأن الهجرة القانونية إلى الولايات المتحدة قد تباطأت. والإجابة هي أن الولايات المتحدة ربما تحتاج بالفعل إلى الحفاظ على تدفق المهاجرين للحفاظ على ازدهارها. وترتكز دراسة الحالة الاقتصادية النموذجية للهجرة على تقدم السكان في العمر. وفي ضوء انخفاض معدلات الإنجاب الأميركية إلى ما دون مستوى الاستبدال السكاني، بينما يواصل المواطنون المولودون في الولايات المتحدة التقدم في العمر بمعدلات ثابتة، فإن ذلك يعني أنه إذا أراد الأميركيون التقاعد المريح، فإن الدولة تحتاج إلى مهاجرين، وخصوصاً من أصحاب المهارات. فالضرائب التي يدفعها المهاجرون تساعد في تعزيز الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية لهؤلاء الأميركيين. وعلاوة على ذلك، يزيد المهاجرون من القوة الشرائية للمنازل والأسهم التي يمتلكها كبار السن. ويقي ذلك كثيرين من المولودين في أميركا المعاناة في سنواتهم الذهبية. وهناك دراسة حالة أخرى ثانوية للهجرة ترتكز على الابتكار وريادة الأعمال التي يلعب المهاجرون دوراً محورياً فيهما. فالقادمون الجدد يميلون بشكل بكير إلى ريادة الأعمال، وهو أمر الولايات المتحدة في أمس الحاجة إليه، لاسيما في وقت لم تعد فيه الدولة تطلق سوى قليل من المشاريع التكنولوجية. ويميل المهاجرون من أصحاب المهارات أيضاً إلى الإبداع بشكل كبير، خصوصاً عندما يقترنون بعمال آخرين يتمتعون بالذكاء والمهارة، وذلك من بين أسباب رفع المهاجرين الماهرين لأجور نظرائهم المولودين على الأراضي الأميركية. وبالطبع، يمكن أن يحقق الاقتصاد الأميركي نمواً وإن كان بطيئاً من دون المهاجرين، فحينئذ ستصبح الولايات المتحدة مكاناً أفقر قليلاً، وسيتعين على كبار السنّ الاقتصاد وتوفير مزيد من الأموال. فهل هناك سبب اقتصادي حقيقي يجعل من المهاجرين عاملاً أساسياً للمستقبل الاقتصادي الأميركي؟ بالطبع، هناك سبب ألا وهو: التجمع، والذي يتمثل في ميل النشاط الاقتصادي إلى التكتل بشكل كبير في المدن المنتجة، إذ لا بد أن تكون الشركات قريبة من عملائها، وعملاؤها هم أيضاً من العمال، يحتاجون للعيش بالقرب من أصحاب عملهم. وذلك المبدأ الأساسي مفتاح لنظريات «بول كروجمان» الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد. وعلاوة على ذلك، للمدن أهمية كبيرة في إنتاجية الدولة، فعندما يعيش العمال الماهرون والمهندسون والمصممون والمديرون وفيالق المبدعين الآخرين بالقرب من بعضهم بعضا، تتدفق الأفكار بسهولة فيما بينهم، وهو ما يزيد من الإبداع والتطور. والشركات التي تعتمد على أولئك العمال يمكن أيضاً أن تستفيد من وجودهم في منطقة صغيرة، وهو ما يعرف بـ«السوق الثمينة». ولا شك في أن إمكانات المدن مفتاح خاص للاقتصاد الحديث المبني على المعرفة. لذا، لا يعتبر استمرار الهجرة آمن فحسب للولايات المتحدة، ولكنه ضرورة اقتصادية. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»