مَن يتخوّف مِن «العلمانية» يشبه السمكة التي تعيش في البحر معتقدةً أنه اليابسة، وتبلع ريقها كلما تخيّلت الحياة في الماء، ذلك أن قيم العلمانية مأخوذ بها بشكل أو بآخر، لكن لأن العلمانية شُوِّهت وأُلحِقت بالإلحاد، في حين أن المجتمعات العربية غير منفصلة عن الدين، والقوانين لا تعادي التديّن، يعتقد بعضهم أن العلمانية في آخر الدنيا، ولو فهموها من حيث الانطلاق ضمن الإطار الوطني، واستيعاب المشارب المختلفة، لوجدوا أنفسهم في خضمها. ولنبدأ باستقلال الدول العربية، حيث لم يعرف الفقهاء إلا دولة واحدة، وقد حاول بعضهم التوفيق بين نظرية الدولة الواحدة وواقع تعدّد الدول، فقالوا إن النصوص الدّالة على وجوب طاعة ولي الأمر مطلقة، وبالتالي تنطبق في حالة تعدّد الحكام، وإن هذا الحاكم مطاعٌ حتى وإن قصّر في أداء واجبه بتوحيد البلاد الإسلامية! ونعرف جميعاً أن هذا التوفيق ملفّقٌ، ولو حركت دولة ما البلدوزرات لأداء ذلك الواجب، لتحركت دبابات العالم ضدها. كما أن مفهوم «ولي الأمر» لا حيثية قانونية له اليوم، فخضوع مواطني الدول لمؤسسات بلدانهم ينبع من خضوعهم للدستور، ولم يعد لشروط الولاية اعتبار كبير بوجود المحاكم الدستورية المختصة وحدها في البتّ في أي خلاف حول سُلطات الدولة وقوانينها. ونجد أهم قيم العلمانية، وهي المواطنة، تكتنف الدساتير العربية، على عكس آراء الفقهاء الذين لا يرون تولية المرأة الحكمَ، ويحصرون دورها في القضاء في الخصومات والمخالفات دون قضاء المظالم، أي النزاع بين الأفراد والدولة، أما غير المسلم الكتابي، فلا يحق له شيء من ذلك، ولا يحق له الانتخاب أيضاً، كما أنه يدفع ضريبة على أساس ديني، أما غير الكتابي فهو هدر. أما عقيدة الجيوش الإسلامية، باستثناء «الحرس الثوري الإيراني»، فنجدها قائمة على صون الدستور وحماية السيادة والذود عن الحدود. ومن يقول إن الدفاع عن الأرض واجب ديني أساساً، يغيب عنه أن حماية التراب الوطني عقيدة كل جيوش العالم. ولا تعرف هذه الجيوش دار الإسلام ودار الكفر، ولا تعترف بتعريف الفقهاء للعدو، وليست لديها نوايا لفتح البلدان غير الإسلامية، وقرار الحرب والسلام بات يستند إلى مبادئ وطنية. وإذا كان الدور الرئيس للدولة في نظر الفقهاء هو الدعوة، والأساس الذي تقوم عليه علاقاتها مع الدول الأخرى هو الدين، فدور الدولة الرئيس حالياً هو الحماية، وأساس علاقاتها هو المصالح، وهذا الاختلاف الشاسع بين الدورين والأساسين استتبعه اختلاف في كافة المفاهيم والأطر والسياسيات، وصارت الكلمة الأخيرة لخبراء السياسة والقانون والاقتصاد والاجتماع. وكل هذا من ثمار الفصل بين الشأن العام والشأن الديني، وهو جوهر العلمانية، ويخدع نفسه من يعتقد خلاف ذلك، ولو أخذت هذه الدول بآراء الفقهاء لكانت شيئاً يشبه «داعش»، حيث لا اعتبار لمواطنة، أو اعتراف بحدود، أو احترام لنظام، ذلك أن المتقدمين صاغوا آراءهم قبل ظهور المفهوم الحديث للمواطن وللدولة وللعلاقات الدولية، أما المتأخرون فهم صدى للماضي، لم يجتهدوا في المواءمة بين تلك الآراء والمفاهيم الحديثة، رغم أن القاعدة تقضي بزوال الحكم بزوال موضوعه، وكانت النتيجة هذه الهلاوس التي يسمونها بالإمبراطورية الإسلامية! والمقام لا يتسع لتتبع كل بصمات العلمانية، إذ الغرض هو توضيح أن العلمانية ليست غولاً، وأن السماء لن تسقط بالتوسّع فيها بما يتناسب مع قيم مجتمعاتنا، فليس للعلمانية «كاتالوج» ينبغي الالتزام به لتعمل الماكينة، فهي نظام قانوني يعمل بأكثر من طريقة.