إشارات إيجابية قادمة من العراق. حفل الشهر الأخير بتطورات مهمة في مواقف بعض القوى السياسية الأساسية. فقد زار السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الرياض ثم أبوظبي، وجاءت الزيارتان بعيد زيارة السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي إلى الرياض في يونيو الماضي، الأمر الذي يدل على وجود اتجاه إلى مراجعة علاقات العراق الإقليمية لتحقيق توازن فيها. وسبق زيارتي الصدر إلى السعودية ودولة الإمارات إعلان عمار الحكيم في 24 يوليو تأسيس تيار الحكمة على أساس المواطنة، ومغادرته «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» الذي تولى رئاسته منذ 2009، في خطوة قد تكون بداية تغيير في المعادلات الداخلية التي تحكمت فيها إيران لأكثر من عشر سنوات. ولعل أهم دلالات هذه الخطوات أنها تعبر عن بداية مسار يمكن أن يقود إلى وضع حد للمنحى التصاعدي للنفوذ الإيراني في العراق. فقد تبنى الحكيم خطاباً وطنياً عراقياً مختلفاً عن التوجه الذي طغى في حزبه السابق، ولم يتمكن من تغييره قبل أن يغادره ويؤسس تياراً جديداً قال عنه إنه «يفتح ذراعيه لكافة العراقيين على اختلاف معتقداتهم». الرسالة نفسها يمكن قراءتها في المواقف الوطنية التي تبناها الصدر في الفترة الأخيرة عندما أخذ مسافة من إيران وسياساتها، واتجه إلى مخاطبة العراقيين على أساس وطني عابر للطوائف، وأعطى الأولوية لقضية تجمعهم وهي مواجهة الفساد وتحقيق الإصلاح. وجاءت زيارته إلى السعودية ودولة الإمارات تأكيداً لهذا الاتجاه الذي يرتبط بإدراك التداعيات الخطيرة التي ترتبت على استشراء النزعة المذهبية، وتوسع النفوذ الإيراني، وتعميق الانقسام الاجتماعي والسياسي الذي يهدد وحدة العراق. وهكذا يشهد العراق تحولات مهمة في مواقف ثلاثة من أبرز قادة «التحالف الوطني» الحاكم الذي يضم القوى الشعبية السياسية الأساسية (العبادي والصدر والحكيم) واتخاذهم مواقف متوازنة داخلياً وإقليمياً. لكن هذا لا يعني انحساراً سريعاً في نفوذ إيران الذي تراكم في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، واستشرى في الساحتين الدينية والثقافية، على مدى أكثر من عشر سنوات، الأمر الذي جعل العراق معبراً لهذا النفوذ إلى بلدان عربية أخرى، وخاصة سوريا في مرحلة اضطراب عميق يسود المنطقة. اتبعت إيران استراتيجية متكاملة لتوسيع نفوذها في العراق في السنوات التالية لحرب 2003. استغلت الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الأميركيون، ووصل بعضها إلى مستوى الخطايا السياسية. وجدت ساحة مفتوحة أمامها بعد حل الجيش العراقي وتسريح جنوده، وتقويض الأجهزة الأمنية والعسكرية وتفكيك أهم المؤسسات المدنية. فقد تجاهل وزير الدفاع حينئذ دونالد رامسفيلد تقارير مراكز تفكير نصحت بحصر التغيير في أركان هذا النظام وقادة جيشه وأجهزته ومؤسساته الأساسية، والمستويات القيادية في حزب البعث، مع إعادة تأهيل أعضائه في المستويات الوسيطة والقاعدية. واستندت تلك النصائح على تجارب بلدان عدة أثبتت أن التوسع في الاستئصال والإقصاء يخلق بيئة حرب داخلية، وخاصة حين يكون المجتمع منقسماً على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية أو غيرها. ولم يدرك رامسفيلد ورجاله أنهم يقدمون العراق على طبق من ذهب إلى إيران، التي صارت هي المنتصر الوحيد في حرب 2003. وكأن الولايات المتحدة خسرت نحو 4500 من جنودها، وأكثر من تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب فيها، لكي تُقدّم هدية تاريخية إلى إيران. لذلك كانت مهمة الإيرانيين الذين خططوا للتغلغل في العراق سهلة للغاية. كانت أبواب العراق مفتوحة أمامهم، وأتاح انفجار النزعة المذهبية غطاءً لتغلغلهم. فقد أبقى قمع نظام صدام حسين النزعة المذهبية تحت السطح، إلى أن فجرَّتها تداعيات حرب 2003، فركبتها إيران، وسعت إلى تعميقها لضمان قاعدة واسعة لنفوذها، ودعمت ميليشيات مذهبية ودربتها وسلحتها حتى تعاظم دورها وصارت العقبة الأكبر أمام جهود محاصرة هذا النفوذ الذي يصعب تصور انحساره بشكل فوري أو سريع. ومن هنا أهمية التطورات التي تحدث في مواقف قادة عراقيين بارزين نحو وضع حد للنزعة المذهبية، واستعادة معنى المواطنة وواقعها. فكلما ازداد الانتماء الوطني، تراجعت النزعة المذهبية المتطرفة، وانحسرت قاعدة النفوذ الإيراني في العراق، وضعفت الأدوات التي تعتمد عليها طهران.