تبدو المشكلة على درجة كبيرة من الخطورة، كما ينقلها لنا تاريخنا الطويل الزاخر بالأمثال والعبر، حينما يلجأ بعض الحكّام إلى حماية أنفسهم بحرّاس أجانب، حرّاس من غير قومهم، ليتحولوا بعد فترة من الزمن، ليس إلى أسرى فقط، إنما مصائرهم تكون شنيعة وبائسة، وليت المسألة بالنسبة للحرّاس الأجانب، تتوقف على التعامل مع الحكام كأسراء والتدخل بقراراتهم، لكنها تتعدّى إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، لتطال الدولة وتهدد بقائها، خصوصاً حينما تكون إدارة الدولة فرديّة شمولية (دكتاتورية). إن أول من بدأ تشكيل الحرس الخاص كجهاز عسكري منفصل عن بقية التنظيمات، وربط مسؤوليته المباشرة بشخصه، هو الخليفة الأموي في دمشق، معاوية بن أبي سفيان (توفي 680 م)، لتكر السبحة بعده ويصبح الحرس الخاص تقليداً مألوفاً لا غنى عنه. وعدد الحرّاس كان في بعض الأحيان يتعدّى الألف، يتناوبون فيما بينهم حراسة (الخليفة) والقصر والمواكب ليل نهار. وتفاقمت هذه المشكلة تاريخياً بدءاً من عصر المأمون، الخليفة العباسي السابع (عبدالله بن هارون الرشيد، توفي 833 م)، الذي أحاط نفسه بفرقٍ من الفرس، لكن المسألة بعد فترة أصبحت معضلة غير قابلة للحل، فخطرَ للخليفة الثامن المعتصم (أبو إسحاق المعتصم بالله بن هارون الرشيد، توفي 842 م) أن يحررَ نفسه من الفرس، فوضعَ عنقه - وعاصمته - تحت سيوف الجنود الأتراك. قال ابن الأثير: (فلمّا أفضت الخلافة للمعتصم، كان الأتراك (عوناً) له، وتكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم، وصاروا يؤذون العوام في الأسواق، فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذى كثيراً، وربما أردوا الواحد بعد الواحد قتيلاً على قارعة الطريق.. اتفق أن المعتصم خرج بموكبه في العيد، فقام إليه شيخ كبير وقال له: (يا أبا إسحاق). فأراد الجنودُ ضربه، فمنعهم وخاطبه: (يا شيخ ما لك؟) قال: (لا جزاك الله عن الجوار خيراً. جاورتنا، وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك، فأسكنتهم بيننا، فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت نساءنا، وقتلت رجالنا) والمعتصم يسمع ذلك، فدخل منزله بعدها ولم يُرَ راكباً إلى مثل ذلك اليوم). ابتنىَ المعتصم لنفسه وحرّاسه مدينة تخصهم وحدهم في سامراء، كحلٍ وحيد لهذه المشكلة، فبدا الخليفة يومها مجرد شخص أسير بين أيدي أمراء الأتراك، وهذه الحقيقة المؤلمة، أصبحت حينذاك بالنسبة للمواطنين في بغداد، مصدراً مألوفاً للنكات والتنّدر. قال الفخري: (فلما تولى المُعتز، الخليفة الثالث عشر أبوعبدالله المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد- توفي 869 م- قعد خواصه، وأحضروا المنجمين، وقالوا لهم: (انظروا كم يعيش الخليفة، وكم يبقى في الخلافة؟). وكان في المجلس بعض الظرفاء فقال: (أنا أعلم من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته) فقالوا له: (فكم تقول إنه يعيش، وإنه يملُك؟) قال: (مهما أراد الأتراك) فلم يبق أحدٌ في المجلس إلا ضحك. ولم تكن النكتة ظريفة إلى هذا الحد، فقد قام الأتراك فعلاً، بقتل الخليفة المعتز، بعد أن (جروه برجله إلى باب الحجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلاً، ويضع أخرى لشدة الحر). أما الخليفة السابع عشر، المُكتفي (أبو محمد علي المُكتفي، توفي 908 م) فقد (سمّلوا عينيه، ثم حبسوه حتى مات في الحبس) وعزلوا ابنه المدعو القاهر، الخليفة التاسع عشر أبو منصور محمد بن المعتضد بن المتوكل القاهر بالله، توفي 950 م، وكان مصيره بائساً. قال الفخري: (فكان المُكتفي - يُشاهدُ وهو يستعطي في أسواق بغداد، لابساً قبقاباً خشبياً). خُلاصة القول:(..وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلُها إلاَّ العالمون). صدق الله العظيم.