شرع العقل المسلم في رحلة فهم النص الديني المنزّل بوحي في استخدام معايير خاصة ابتدعها وجعلها ملزمة للمجتمع المسلم لتوضيح مفهوم الإسلام والدين، وجعل مقاصد القرآن مختزلة في مقاصد الفقهاء، والتفريق بين إسلام شعبي وإسلام تنظيمي وإسلام طبقي وإسلام مذهبي وإسلام نفعي رسمي وإسلام روحي وإسلام ثوري وإسلام معاصر متحرر، وكل تلك التقسيمات كفيلة بأن تجعل العقل المسلم مقيداً بقيود تتراوح بين المؤبد والمؤقت، ماكثاً في سجون الواقع التاريخي للمورث من جهة، والحداثة من جهة أخرى، معتقداً بالحاجة الماسة لهذه القيود. أما لدعاة عمامة أو دعاة سيف، أو سلطة أو فكر، حتى نصل بالإسلام إلى نقطة الخلاص والمخالصة التاريخية للتفريق بين الوهم والحقيقة؟ فمعظمنا بفكر بعقل ينسخُ ويقدّس تفكير ومنطق العقول السابقة لوجودنا وظروفنا وطبيعة العصر الذي نعيش فيه بمراحل طويلة، وأما أن نطالب بتغييرات جذرية بحكم التحولات التي طرأت على المجتمع والفكر الإنساني والدعوة لعقلنة الدين والانتقال من سلطة النص لسلطة العقل، وكأن للفكر الإسلامي إخفاقات ونجاحات معيارية محكمة، ولا بد من الأخذ بمسلك واتجاه بعينه للوصول لإجابة قطعية الثبوت بين شرنقة التراث وبلدوزر هدمه! فما نُسب للمقدس وتمت مساواته به أو بناء إسلام جديد يعتمد على النقد والتحليل والتعاطي العقلي العلمي وتفكيك مسلمات ومفاهيم وتفسيرات ومراجع دينية تاريخية وإرجاعها للتاريخ وتبرئة النص المنزل بوحي منها، كلها أمور تصب في وعي بشري محدود واستحالة إدراك وعي كلام الله المطلق في الروح والمعنى المستتر عن العقل البشري المجرد، لنجد أنفسنا ندور حول ما هو ظاهر ومستساغ أو نفعي للنفس والعقل البشريين في المجمل اللفظي، وهو نسبي الفهم والتفسير. وتكمن صعوبة الجمع بين العقل التجريبي والنص، ألا ننحاز لأحدهما على الآخر، وصعوبة إخضاع الكمال في النص للبراهين والأدلة الرياضية في الغالب، وبروز ظاهرة أدلجة التراث لمصلحة العلمنة أو الأسلمة في محاولات لإيجاد تماهي بين الذات والمادة الدينية، والتمادي في أهمية نبش القبور حتى نفهم الدين، وهناك من يرى أن نموذج التنوير الغربي، والذي هو تراثي كذلك في جذوره هو الحل، حيث تعد المرجعية في الفسطاطين منغمسة بين هوية ضائعة وتبعية انتقائية للفكر. وما جدوى استحداث هوية جديدة مبعثرة بين الشرق والغرب والتغيير سيفرض نفسه لا محالة؟ فمفهوم التنوير الديني لا يقل تعصباً وتطرفاً عن تقديس الموروث الديني كما هو، وجعله نسخة وحيدة لكل العصور، حيث تظهر إشكالية أن مقابل النور هناك ظلام. وإنْ أعتقد شخص بأنه تنويري، فهو يعتقد بأن الآخر ظلامي، وكلا العقلين يسعى لطمس الآخر وإنكار حقه في تبني قناعات مختارة ومنتقاه بغض النظر عن صحتها وقيمتها في العموم. فالتنويري يريد أن يحيل عقل محال للتقاعد إلى التقاعد، والتراثي المتعصب يمنع التنويري أن يكون له حق التفكير النقدي، مع التركيز على أهمية الرموز التاريخية، وكتبها التي صنعت ديناً مركزياً قلل من أهمية التعليمات والتشريعات الأساسية في القرآن، كأن يوحد المسلم الله، ويؤمن برسله وكتبه واليوم الآخر، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج عند الاستطاعة، وألا يقتل الإنسان أو يزني أو يشرب الخمر أو يظلم أو يأكل الربا، وعلى أن يكون على خلق عظيم...إلخ. فالطرفان لديهم إشكالية وهي حرية التفكير والاختيار دون إجبار وشيطنة الآخر، إذا ما أختلف في فهم وتبني النسخة التي تناسبه من فهم الدين والحياة، وكيف يتفاعل مع محيطه. ويتهم التنويري التراثي بأنه لا يملك عقلاً تقدمياً يساهم في التنمية في مجتمعه من منطلق إنساني، ويرى ضرورة فرز وتصنيف التناقضات في كتب الدين الوضعية وعدم تقديسها، ويعتقد أن العقل الماضوي أصولي في طبيعته، وهو من جعل التأويلات ديناً موازياً لما جاء في القرآن، وجعل فهمه وتفسيره له واجتهاده فوق النقد، وهو ما عطّل العقل المسلم، وكان الإرهاب والغلو في الفكر انعكاساً تلقائياً حادثاً بالضرورة لتمجيد أسطورة العقل الأنثروبولوجي في عصر أسطورة الإسلام الذهبي الذي تمخض عنه تكفير نقد اليقين، والذي يتمثل في ما جعلوه فريضةً على كل مسلم، ولم يفرضه الله في كتابة بنص صريح، وهل من حق العقل التنويري المسلم أن ينادي بطمس هذا التراث بدلاً من نقد مضمونه، وإيجاد بدائل متاحة للجميع دون الانتقاص من حق من لا يرى فيها قيمة تُذكر؟