أكثر ما يمكن ملاحظته عند الكثيرين هو كرههم للنقد البناء، الذي يساهم في تصحيح الأخطاء، وتجاوز العقبات. ولعل النظام التعليمي لا يبني، في بعض الأحيان، العقلية الناقدة والقادرة على التساؤل وإيجاد نقاط الضعف في كل تفاصيل الحياة. فليس من شخص غير قابل للانتقاد، وإذا وجهت له انتقاداً، حتى لو كان مفيداً له، فإنه سيهاجمك بتبريرات مخيفة، تجعلك تعض بنان الندم على كلمة كنت تقصد بها البناء، وتحولت فجأة إلى شر يستحق التدمير فوراً. ولعل الفراغ الذي يعانيه كثيرون في علاقاتهم الإنسانية متعددة الصفات والأشكال سببها الحقيقي هو هذا الرفض المعلن لأي انتقاد سواء في مجال العمل، أو في مجال الحياة اليومية، وهو الأمر الذي يعيق أي تطور في هذه العلاقة أو الشخصية ذاتها. فالمبررات الجاهزة تعيق الإنصات للنقد، وتمنع تأمل حقيقة هذا النقد ومدى ملامسته للحقيقة، ولعل رسائل التواصل الاجتماعي جعلت من الجميع مدافعين ومهاجمين في آن معاً عن أي فكرة، أو رأي لا يروق لهم، ولا يناسب أهواءهم. بل يتحول الأمر إلى عداء شخصي بعيداً تماماً عن الموضوعية وتقبل الرأي المخالف. ولا يقصد هنا النقد بالتجريح أو الإساءة، إنما هو النقد الهادف لتصحيح الخطأ والوصول إلى تكامل في الحقوق والواجبات. بناء الفكر الناقد والإنسان الباحث عن النقد، هو في الحقيقة السبب الأول لنهضة الغرب، فلولا النقد، ولولا تعدد الآراء لغرقت السفينة، وانتهى بهم المطاف إلى ذات الكلام في العصور الوسطى. وهذا الكلام يخيم اليوم على عقولنا وعقول صغارنا، كلام مجحف في حق الاختلاف البنّاء. فمن الأهمية بمكان أن نركز على الجيل القادم، كي يدرك أن اختلاف الآراء لا ينبغي أن يتم تحويله إلى اعتبارات شخصية، وأنه يتعين على الفرد ألا يعتبر ذاته غير قابلة للنقد، ولا يصدق بأن كل ما يقوم به من أعمال ستنقذ البشرية، فهذا هو الغرور، المتمثل في أحادية الرأي والرؤية، والتي سينتج عنها جيل عاطل بعيد عن الإبداع وعن ممارسة حقه في تطوير ما هو سائد وعدم الانصياع لبعض التقاليد لسبب واحد فقط، هو أن ذلك ربما يخالف ما اعتاد عليه المجتمع. فلاشيء يقيد الإبداع ويؤخر نضج الشخصية مثل الالتزام بإطار اجتماعي لا ينصاع لاختلاف الأشخاص وتفردهم بمواهب وذكاء في مجال ما. فهذا سيولد لدينا أجيالاً من السائرين في طريق آبائهم عمياناً بلا أدنى بصيرة لما هم عليه وماذا يريدون، أمثال هؤلاء يطمسون النقاط المضيئة الأخرى المرصعة بالإبداع والتميز. فالعقول التي لا تستوعب معنى أن يقال لها (لا ) أو أن يحرف نظرها نحو آفاق أخرى جديدة ومنهجية لا يمكنها، إلا أن تنتج السائد والمعتاد إلى حد الرتابة، هي عقول عاطلة عن العمل. نفض العقول الصغيرة هدف مهم واعتيادهم على أساليب نقدية عامل مؤثر في نمو صحي ومهم وهؤلاء وحدهم من سيعوّل عليهم في نجاح التغير نحو الأفضل.