فليسأل المكابر والمعاند نفسه سؤالاً واحداً: هل قاطعت الدول الأربع قطر طوعاً أم كرها؟ هل هناك دولة من الأربع كانت تريد ذلك الذي حدث؟ هل ما حدث وليد اللحظة، أم هو صبر طال ربع قرن لعلّ الضال يعود إلى رشده؟ هل صبرت الدول الأربع وتأخر رد فعلها. أم تسرعت وكانت تتربص بقطر؟ أي مصلحة تعود على المرء من بتر عضو سليم في جسده؟ بل أي جنون يدفعه إلى ذلك؟ أليس ما حدث هو بتر اضطراري لعضو مصاب مسمم مسرطن؟ ألم يتأخر طبياً وسياسياً هذا البتر؟ ألم يتسمم الجسد العربي كله بسبب هذا العضو المسموم الذي تلكأنا في بتره، لعله يبرأ فإذا بسمّه ينتشر في الجسد كله. ويعلم الله إن كان هذا البتر المتأخر جداً سيجعل الجسد العربي يبرأ ويعود إلى الحياة. وتقول العرب في حكمها وأمثالها: كل شيء يأتي في وقته فقد مضى وقته. فما بالنا إذا أتى الشيء بعد وقته بربع قرن؟ السلحفاة العربية تدير كل أمورنا في هذه الأمة التعيسة ونعيش بقول الشاعر القديم: أرى تحت الرماد وميض نار.. ويوشك أن يكون له ضرام يكتفي العربي بأن يرى وميض النار تحت الرماد، ولا يتحرك أبداً لإخماد هذا الوميض، بل هناك حالة إنكار عربي مزعج جداً لكل شر .. وهناك أيضاً حالة تبرير مقيت لكل شر. ووميض النار يكبر ومستصغر الشرر ينتشر، ونحن دائماً نقول: كل شيء على ما يرام، أو كما يقول المصريون «كله تمام يا افندم». دائماً نرى أن الأمور الخارجة عن السيطرة تحت السيطرة، وأن العلاقات الجدباء الجرداء المتصحرة جيدة ومثمرة. وأن الخلافات العميقة تطابق تام في وجهات النظر. وفي الدول التي ضربها الخريف العربي في مقتل كانت التقارير المزعجة والمعلومات الخطيرة على مكاتب المسؤولين «قبل الهنا بسنة»، لكنها كالعادة قوبلت برذيلة الإنكار وغض الطرف، وأن الأمور تحت السيطرة «وكله تمام يا أفندم». ويقول المصريون في أدبياتهم إن المعلومات الخطيرة والمزعجة تظل تتدحرج حتى تصل إلى باب صاحب القرار وتتوقف ولا تدخل والحجة دائماً: هل تريد منا أن نزعج المسؤول الكبير بهذه الأمور التافهة؟ لا يجوز، ويقولون إن صاحب القرار والحل والعقد مثل الزوج المخدوع. هو دائماً آخر من يعلم، وعندما يسأل عن الأحوال يُقال له: «كله تمام يا افندم». وهذا التمام سرعان ما يتحول إلى بركان لا يبقى ولا يذر. السلاحف العربية هي التي تدير دفة السفينة الغارقة. ولا يتحرك في هذه الأمة بسرعة وخفة سوى الشر والأشرار. ولا يتعاون العرب على البر والتقوى، بل يتعاونون على الإثم والعدوان، وأي عدو لا ينتصر على العرب بذكائه. بل بغبائهم .. بحركته السريعة وحركتهم السلحفائية، بإقدامه وترددهم، بكره وفرهم. وعندما أقر العرب بأن السلام مع إسرائيل خيارهم الاستراتيجي، كان أوان «الخيار» وموسمه قد فات. فلم يعد في السوق «حبة خيار» وعندما قالوا في الماضي: لا اعتراف ولا صلح ولا تفاوض .. كانت «نعم» متاحة، وعندما قالوا: «نعم». كانت «نعم» قد ماتت، بل كانت «لا» قد ماتت أيضاً، وفات وقت «نعم» وفات وقت «لا» . والمؤمن لا يلدغ من الجحر الواحد مرتين. فهل العرب قوم مؤمنون وهم يلدغون من الجحر الواحد خمساً وعشرين سنة؟ وعندما يكون الحل متاحاً ينكر العرب وجود مشكلة. وعندما تعترف السلحفاة العربية بأن هناك مشكلة بالفعل .. يكون الحل قد مات، وفات وقته، فنحن نقتل الحل ونعتقله ونحيي المشكلة ونطلق سراحها، حتى إذا تغوّلت واستشرت المشكلة هرولنا إلى الحل لتخرجه من أسره، فإذا به قد مات. وعندما وافقنا على حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية فوجئنا بأن هناك دولتين فلسطينيتين متصارعتين في غزة ورام الله. إسرائيل حصلت على السلام بحروبنا معاً. إسرائيل صارت قبلة قطر مع طهران وأنقرة، ولم تعد مكة قبلة قطر، وحتى أكذوبة الأمّة العربية الواحدة صدقناها حتى فوجئنا بأننا كنا نقبض الريح، إنها رذيلة الإنكار. إنكار أننا نكذب ونصدق أنفسنا. إنكار أن العرب أعداء بعضهم أضعاف أضعاف عدائهم لأي قوى أجنبية أخرى وصدق الشاعر الذي قال: قَلبي إلى ما ضَرّني داعي .... يُكثِرُ أسقامي وأوجاعي كيف احترازي من عدوِّي إذا.... كانَ عدوّي بينَ أضلاعي؟ مأساة السلاحف العربية أنها ظلت تخترع أعداء وهميين من خارج الأمة، وتنكر أعداء حقيقيين بين أضلعها، مأساة السلاحف العربية أنها تتحرك ببطء شديد مميت والمأساة الأشد أنها تتحرك للخلف ولا تقطع أرضاً، لذلك تظل أقلام وحناجر الخير تعوي وقافلة الشر تسير بأمان. وحالة الإنكار ليست آفة الأنظمة وحدها، بل هي آفة الشعوب العربية. وفريق المتعاطفين أو الموالين لقطر ينكر أن الأزمة تسببت فيها قطر. بل إن قطر نفسها تعاني مرض الإنكار، وترى أنها سفكت الدماء، وموّلت الإرهاب، وخربت ودمرت لوجه الله تعالى. وهناك فريق لا يستهان به من العرب، يرى أن الإرهاب والدمار والخراب والقتل وتمويل سفك الدماء. كل هذا صدقة جارية. وكل العرب الذين يعارضون ويدينون قطر، ظلوا طويلاً ينكرون وجود أزمة. ظلوا ربع قرن يرون أنها أمور صغيرة تحت السيطرة، ولا ينبغي أن تعكر صفو العلاقات بين الأشقاء، بل إن الأشقاء هذه كذبة أخرى صدقناها. فالعرب واقعون تحت تأثير مخدر جعلهم في غيبوبة تامة، هو مخدر الإنكار وغض الطرف والتبرير. فإذا اعترفنا بعد طول إنكار، نبرر ما يحدث، ثم نقرر عندما يكون الوقت قد فات ومضى. ويكون الأمر قد خرج عن السيطرة، ونكتشف أنه كل شيء يفرقنا. ولا شيء يجمعنا. ويصبح الكلام بلا معنى، فلا تبقوا معنا.