تحدثنا من قبل عن كيفية تحولات اللغة في مناطق تفاعلها من المحلية إلى لغة قومية وقد تصبح عالمية. ويعرف الجميع أن الفرنسية كانت محدودة المجال ضمن تطور لاتيني، حتى أقر المجتمع الأكاديمي الفرنسية الباريسية لغةً قومية في القرن السابع عشر تقريباً، ورأينا أيضاً في مقال قريب كيف كانت «الأفريكانز» لغة سرية للرق الآسيوي والأفريقي في أول القرن العشرين، لتصبح لغة قومية يفرضها المستوطنون، ثم تكاد تنزاح عن موقعها أمام الإنجليزية مع التحول السياسي «الديمقراطي» في جنوب أفريقيا، واتخاذ بعض اللغات «المحلية» الأخرى مواقع مناسبة في الخطاب الاجتماعي العام. أريد قبل المضي إلى وضع لغة أخرى وتوظيفها مثل «الكانوري» النيجيرية أن أكرر أهمية الانتباه العربي الثقافي إلى تلك القضية، قبل مصادمات أكبر في المنطقة حول القومي والمحلي من اللغات، لأن ذلك أثار بالفعل دعوات أو توترات أحياناً من مواقع الكردية والأمازيغية والنوبية، وقد تكون اللهجات نفسها أحياناً موضع هذا القلق، بينما نقول أيضاً إنه يمكن أن يقوم عليها تفاعلات تغني الثقافة والعلوم والفنون في كل بلداننا، مع تطورات وطنية وتنموية مناسبة، بدلا ًمن دفع هذه التوترات إلى مدى، يتحول فيه إلى السياسي بسرعة تفوق الاجتماعي بشكل مؤسف. وما نسمعه عن سوريا حديثاً وقبلها العراق، وبشكل ما في المغرب العربي، يشير إلى تحولات في القضية من التفاوضية الاجتماعية ودعم الوحدات الكبرى إلى الصراع الحاد، بين وحدات صغيرة خاصة إذا ما كانت الأوضاع الطبقية أو الطائفية غير مرضية. من هنا تذكرت قضية لغة «الكانوري» أو «الكانمبوية» في شمال شرق نيجيريا، والتي بات القارئ لا يعرفها إلا أنها منطقة «مايدوجري» راعية إرهاب «بوكو حرام» أي تحريم التعليم الحديث أو تأثيمه على نحو ما تفعل جماعات إسلامية أخرى في منطقة غرب أفريقيا بوجه خاص، في ظل عزلة ثقافية أو اجتماعية واضحة رغم إمكانيات بعضها أن تكون قاعدة حراك وطني واسع. أقول ذلك لأن هذه المنطقة التي ضمت تاريخياً ممالك «كانم و بورنو» متتابعين أو مندمجين تعيش بضع سنوات بين( 2015-2020) حالة احتفالية بمرور ألف عام على تأسيسها، وكتابة «الكانوري» بالحرف العربي فيما يسمى «بالعجمي» - وقد فوجئت وأنا أبحث في مخطوطاتها لتضمينها كتابي حول المخطوطات الأفريقية بالحرف العربي (العجمي) بنص ملكي خطير يرصد تتابع ملوك و "مايات" الكانوري ومرجعياتهم "سيفاو" إلى سيف بن ذى يزن على مدى الألف عام تقريباً.( وثيقة جيرجام ) الملفت هنا لموضوعنا هو امتداد هذه الممالك "الكانورية" على مدى هذه السنين - وهي في منافسة مذهبية بين الفودية (الفولاني) و"الكانمية"، في إطار الفكر الإسلامي وبلغتهم الوطنية، لكن بالحرف العربي، مما جعل (البولارية) والكانورية تؤسس الامبراطوريات على مساحات كبيرة تمتد من بحيرة تشاد حتى نهر النيجر، بل وتصل لما بعد تشاد في (دار الفور) السودانية، وأعالى النيجر قرب مالي وجنوب نيجيريا نفسها، وكان هذا معنى الانطلاق لتكوين دولة نيجيريا الوطنية. وقد وجدت في منطقة الأزهر ومكتباته القديمة نصوصاً، من كافة لغات هذه المنطقة قديمة وحديثة ذات دلالات كبيرة عن التبادل الثقافي المحلي. كنت أتصور دائماً أن هذا التراث الامبراطوري «سينتهى بإقامة الدولة الوطنية الحديثة ذات التنظيم السياسي واللغة الوطنية، حتى لو لم تكن باسم نيجيريا، ولكن ها هي المرحلة الاستعمارية والصراعات الدينية تربك كل ذلك بما جعل» الكانوري والكانمبو شتاتاً في كل المنطقة، محاصرين لعشرات العقود، متحولين للحرف اللاتيني، متروكين في غياب ثروة البترول والتعليم والثقافة الوطنية..إلى شراذم العنف والإرهاب. وبدلاً من استعادة التراث بكل جوانبه السياسة والثقافية، بدأوا شباب العنف في "كانو" ممتداً إلى «مايدوجري». وتحول تنافس الفولا والهوسا والكانوري الثقافي والفكري، من بناء الدولة الوطنية إلى مجموعات «بوكو حرام» التي تساعدها اللغة نفسها في الامتداد على هذه الخريطة بالإرهاب لا المذاهب الفكرية والفقهية، أي بالبنية الثقافية عميقة الجذور. وندهش أن تمضى مرحلة «التعاون العربي الأفريقي» دون العناية بالعمل الثقافي الواسع في هذه المناطق، وكنا نصبح بذلك أقوى في مواجهة الإرهاب، لكن ها نحن نقوم فقط بنشر اللغة العربية، وبنصوصها التقليدية التي ينصرف عنها الآن شباب هذه المناطق، يستوعبهم صراع السلاح الذي تمتلئ به مخازن ليبيا من ناحية، أو أنشطة دول عربية محاصرة في التقليدي وعلاقات ومصالح العولمة من ناحية أخرى.