كان تيودور روزفلت رمزاً أميركياً، ووجهه منحوت على جبل «راشمور»، ولا يزال الأميركيون يتذكرون باعتزاز ثقته وأسلوبه الميّال إلى المواجهة. غير أن روزفلت لم يكن ذلك «الجمهوري» الذي تربى على «مبدأ حرية العمل» مثل «ريجان». وكثير من تصريحاته الانتخابية تُشبه الآن اللغة التي يستخدمها «بيرني ساندرز» أمام الحشود الانتخابية. فقد كان روزفلت يتهجم على «بعض أصحاب الثروات العملاقة الأشرار»، مثلما دأب على وصفهم، في محاولة لتفكيك الشركات والاتحادات الاحتكارية، التي اعتبر أنها تمتص الثروة من الأميركيين المنتمين للطبقة العاملة. وفي الوقت الراهن، يقتفي «الديمقراطيون» أثر روزفلت، وفي إطار خطة أطلقوا عليها اسم «صفقة أفضل»، تعهد السيناتور «شاك شومر» وقادة آخرون في الحزب «الديمقراطي» بمحاربة التكتلات في السوق، وتقضي الخطة بإنشاء وكالة فيدرالية جديدة تُكرس جهودها على وجه الخصوص لمقاضاة الشركات التي تقوم بممارسات غير تنافسية. وستجعل الوكالة من المراجعة الحكومية لعمليات الاندماج أمراً إلزامياً وليس اختيارياً، وتتطلب تقييمات متابعة منتظمة عقب الاندماج. وسيكون حكمها على عمليات الاندماج ليس فقط بناء على ما إذا كانت ستؤثر على أسعار المستهلكين، ولكن أيضاً ما إذا كانت ستُسبب ضرراً للموردين. والأكثر أهمية، أنها ستجعل عبء تقديم البرهان على الشركات الراغبة في الاندماج، لتجبرها على إظهار أن اندماجها لن يضر بالمنافسة. وجلّ ذلك من شأنه أن يمثل تغييراً كبيراً، وعلى رغم أن البنية التحتية القانونية موجودة بالفعل للحيلولة من دون حدوث أنشطة اندماج فاسدة، ولتفكيك الشركات الاحتكارية، إلا أن السياسات الجديدة من شأنها أن تمثل تحولاً كبيراً على صعيد الحضور والانتباه، ولاسيما أن المراجعة المستمرة لأنشطة الاندماج عقب حدوثها، والملاحقة النشطة للشركات التي توحشت، ووضع عبء البرهان على الشركات بدلاً من الجهات التنظيمية من شأنه أن يقطع شوطاً كبيراً على طريق إنهاء حالة التهاون التي انتهجتها الحكومة الأميركية تجاه التكتلات الصناعية منذ حقبة ثمانينيات القرن الماضي. وليس ثمة وقت أفضل من الآن لمبادرة «الديمقراطيين» الجديدة. فقوى السوق في الولايات المتحدة كانت تتصاعد ببطء على مدار عقود، وعلى رغم وجود قلة من الشركات الاحتكارية المطلقة كما كان في زمن روزفلت، إلا أن ما يسمى بـ«احتكار القلة»، والذي يهيمن من خلاله عدد قليل من الشركات العملاقة على قطاع معين، آخذ في التزايد. ولعل زيادة أنشطة الاندماج والاستحواذ سبب جزئي لذلك، فقد قفزت تلك الأنشطة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولا تزال عند مستويات مرتفعة منذ ذلك الحين. وكان خبراء الاقتصاد دقوا ناقوس الخطر بشأن ذلك التوجه منذ فترة طويلة. وقد كتب «جون كوكا»، الخبير الاقتصادي في جامعة «نورث إيسترن»، كتاباً عن حماقات مكافحة الاحتكار في العصر الحديث. وفي تقرير جديد، يكشف «كوكا» مدى رضا الحكومة الكبير على المجموعات الاحتكارية. وإن كانت الحكومة لا تميل إلى السماح لأية شركة منفردة بالهيمنة على أي قطاع، إلا أنه لا تكون لديها مشكلة عادة عندما تهيمن خمس أو ست شركات على أي قطاع. ويتابع «كوكا» التغيير في المواقف تجاه صعود ما يعرف بمدرسة شيكاغو في سياسات مكافة الاحتكار. و«مدرسة شيكاغو» ترى أن معايير الاندماج خلال الفترة الماضية، التي كانت موجهة للحفاظ على صناعات ضعيفة، ضحت بكفاءة التكاليف، وكان لها تأثير تحولي على السياسات، وأفضت في المقابل إلى معايير جديدة للاندماج منذ عام 1982 وما بعده. ويشير عالما الاقتصاد «بروس بلونيجين» و«جاستين بيرس» على سبيل المثال، إلى أن الشركات المندمجة تميل عادة إلى زيادة الأسعار والأرباح من دون زيادة الإنتاجية. وفي عصر تعهد فيه الشركات بكثير من أنشطتها إلى دول تشهد انخفاضاً في التكاليف، على نحو يحافظ على انخفاض أسعار كثير من السلع الاستهلاكية، يكاد لا يشعر كثير من الأميركيين بالتأثيرات البطيئة لـ«احتكار القلة»، ولكنها موجودة على أية حال. وقد بدأ خبراء الاقتصاد أيضاً بإدراك أن التمركز الصناعي بيد قلة ربما يضر الاقتصاد بسبل شتى كذلك، وتقر الخطة الجديدة التي يتبناها «الديمقراطيون» بأن الشركات الكبرى المهيمنة ربما لا تكون فقط شركات تحتكر المنتجات ولكنها أيضاً تحتكر المشتريات، وهو ما يضغط على الموردين، ويزيد من عدم الكفاءة. وقد أظهر بحث أعده خبراء اقتصاد بارزون أن أرباح الشركات شبه الاحتكارية تأتي على حساب العمال الأميركيين في صورة تراجع أو ثبات الأجور. وقد يلعب صعود قوى كبرى في السوق دوراً في تراجع إنشاء الشركات الجديدة، وبعبارة أخرى، ربما يكون التمركز الصناعي واحداً من أكبر عوامل شلل الاقتصاد الأميركي. ولذا فمن الجيد أن يحاول «الديمقراطيون» إعادة إحياء حملة روزفلت الرامية إلى محاربة الممارسات الاحتكارية. ---------------- * أستاذ مساعد في التمويل في جامعة «ستوني بروك» الأميركية يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»