أكره الكراهية.. ولكنني لم أستطع أن أمنع نفسي من كراهية مصطلحات عربية سخيفة ومتعالية ولا معنى لها مثل الناشط والمثقف والمفكر والمحلل والنخبة. وأمد كراهيتي على استقامتها لتطال آفة، بل رذيلة عربية هي رذيلة التصنيف والثنائيات المقيتة التي ملأت حياتنا مثل المرأة، والرجل، والشباب، والعواجيز، والنظام والمعارضة، والإسلام المتشدد والإسلام المعتدل. والأصالة والمعاصرة، والمثقف والسلطة، والمتخلف والمتحضر.. وكل هذه الثنائيات وغيرها تعني أن أحدها ضد الآخر. وتعني أيضاً مزيداً من الصراع والصداع والفتن، تعني أن كل ضدين لن يلتقيا أبداً، وأن أحدهما يلفظ الآخر وينفيه. فالسائد في أمة العرب التعيسة هو «أنا أو أنت». أما أنا وأنت معاً فلا وجود لها في هذه الأمة، التي لا تريد أن تنكشف عنها الغمة. وإذا طُفْتَ العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، بعالمه الثالث والثاني والأول، وبدوله الفقيرة والغنية، فلن تجد أثراً لهذه الثنائيات ولهذا التصنيف إلا في أمة العرب المنكوبة بناسها ونسناسها وكأننا إذا لم نجد الصراع اخترعناه، وإذا لم نجد التناقض صنعناه في معامل الغباء والعناد والمكابرة. وهذه الثنائيات، وذلك التصنيف أكبر وأنصع دليل على تخلفنا الفكري والحضاري لأننا جميعاً وقعنا في هاويته ولم ينج منا أحد. كلنا يستخدم هذه الثنائيات في حديثه سواء كان لا يدري وتلك مصيبة أو إذا كان يدري فالمصيبة أعظم.. حتى في الرومانسيات والحب اتبعنا التصنيف، وقلنا إن الحب أنواع. فهناك حب المرء لأبويه، وحب الإخوة، وحب الأصدقاء، وحب العشاق وحب الوطن، رغم أن الحب واحد وليس متعدداً، فلا يمكن أن يكون الكاره والخائن لوطنه عاشقاً لمعشوقته. ولا يمكن أن يكون العاق لوالديه صادقاً في حب امرأة. نحن فقط نطلق أسماء جميلة على أفعال قبيحة، وعلى رأي الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور: الحب تعبير مهذب عن سلوك غير مهذب. وكثيراً ما تسأل عن علاقة شاب وفتاه أو رجل وامرأة أجنبية فيقول لك أحد طرفي العلاقة أو كلاهما: نحن أصدقاء ولسنا متحابين. أو يقال لك: إنها صداقة وليست حباً، وكأن الصداقة ليس فيها حب. والصداقة والحب من الثنائيات السخيفة التي تغص بها الأمة المنكوبة، لأن الحب عندنا بالفعل تعبير مهذب عن سلوك غير مهذب لذلك ننفيه عن علاقة الصداقة. والتصنيف والثنائيات وإطلاق أسماء جميلة على أفعال ذميمة ودميمة والتعبير المهذب عن سلوك غير مهذب.. كل هذا من خصال المنافقين، والعرب لديهم دون العالم كله براءة اختراع النفاق. فقد كان أقوام الأنبياء جميعاً فريقين. فريق الكفرة وفريق المؤمنين. أما فريق المنافقين، فهو فريق عربي بامتياز. وقوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالفعل ثلاث فرق: فرقة المؤمنين وفرقة الكفرة وفرقة المنافقين. ولم نسمع عن فرقة المنافقين بين قوم أي نبي. وأقول إن الثنائيات والتصنيف من خصال المنافقين.. بل إن العرب يفخرون بأنهم منافقون ويرون في النفاق ذكاء ودبلوماسية.. وجماعة الإخوان هي التي نشرت النفاق في ربوع هذه الأمة ونشرت ما يسمونها التقية التي ابتدعها ملالي إيران أو الفرع الشيعي للماسون.. كما أن «الإخوان» هم الفرع السني للماسون. والتصنيف والثنائيات تعني إظهار الخير وإبطان الشر.. كما تفعل قطر التي سيطر عليها «الإخوان» والملالي والسلاطين. أو سيطر عليها الفرع الإسلامي للمحفل الماسوني، والثنائيات والتصنيف تعني أن نوقع ولا نلتزم بالتنفيذ، وإذا قيل لنا: لا تفسدوا في الأرض. قلنا: إنما نحن مصلحون. وإذا انكشف أمرنا نقول: كنا نخوض ونلعب أو نقول: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً. أو نرفض التدخل في شؤوننا وسيادتنا وسياستنا. وكأن دعم الإرهاب وتمويله ودفع المليارات لتخريب البلدان من أعمال السياسة والسيادة.. وإذا قيل لهم: لا تدعموا الإرهاب قالوا: إنما ندعم الإسلام. العرب قوم لافتات، لكنها لافتات على فتات، وذلك يذكرني بوزارات الثقافة والمؤسسات الثقافية في أمة العرب، ولست أدري ولن أدري ما هو الدور الذي تؤديه وزارات ومؤسسات الثقافة غير تنظيم معارض الكتاب وإقامة ندوات لا يحضرها أحد. وكل الأحداث والصراعات والدم والدمار والإرهاب في هذه الأمة شهادة وفاة وشهادة فشل للمؤسسات الثقافية العربية. فقد سحب الإرهاب والخراب والغيبوبة الشعبية البساط من تحت هذه المؤسسات التي هي مجرد لافتات على فتات. وهناك انفصال تام بين المؤسسات الثقافية والإدارات والوزارات الثقافية والشعوب. انفصال بينها وبين المجتمع، الذي يستقي ثقافته من الإرهابيين. و«الإخوان» وجماعات الدجل السياسي والديني، مع أن الثقافة هي ملح كل شيء في أي مجتمع يعي معنى الثقافة. الثقافة ملح التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة. الثقافة ليست تلك الكيانات المتعالية والمتغطرسة والمنفصلة تماماً عن الواقع الشعبي. فالشعوب مسروقة ومخطوفة بينما هؤلاء الذين نسميهم المثقفين أو المسؤولين عن الثقافة يتحدثون مع أنفسهم حديثاً إذا فهمه الناس غضب هؤلاء المثقفون وإذا لم يفهمه الناس فرحوا وسعدوا لأنهم يمتلئون غطرسة بأنهم النخبة ولا يفهم حديثهم سوى النخبة أمثالهم. وفكرة إنشاء وزارة للثقافة أساساً فكرة شيوعية من أجل تعبيد الأرض والأدمغة لنشر الفكر اليساري.. وقد نجحت الفكرة فعلاً في الصين والاتحاد السوفييتي.. وحتى إذا كانت رسالة وزارات الثقافة سيئة، فإن المهم عندي أنها نجحت.. وقد أخذ العرب فكرة إدارات ووزارات الثقافة من الدول الشيوعية، لكنهم كعادتهم أخذوا اللافتة بلا معنى والشعار بلا مضمون ولم يحدث أن كان لوزارات ومؤسسات الثقافة العربية أي دور أو أي تأثير في المشهدين الرسمي والشعبي. ويبدو أن كل مؤسسات العرب لافتات على فتات وشعارات بلا مضامين. وكلام بلا فعل ومبنى بلا معنى، لذلك ننتقل بكل قوة من فشل إلى فشل، ومن خيبة إلى خيبة. وكل شيء في أمة العرب جعجعة بلا طحن، وكلام بلا لحن، ولافتات على فتات!