تقسيم سوريا ليس حتمياً، وقد لا يكون مرجحاً، رغم المعطيات التي تدفع بعض المراقبين للاعتقاد بأنه قادم لا محالة. لا تتوفر مقومات حياة مستقلة في أي من المناطق التي لا يسيطر عليها نظام الأسد. وينطبق ذلك على الأقاليم الثلاثة التي أعلن «حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» إجراء انتخابات محلية وتشريعية فيها خلال الفترة بين سبتمبر ويناير المقبلين. فالرغبة في الاستقلال لا تكفي لانفصال أية منطقة إذا لم يتوفر فيها حد أدنى من المقومات الاقتصادية. كما أن التقسيم متعذر عملياً لأن الحرب خلقت، وما زالت، تداخلاً في مناطق نفوذ الأطراف المتحاربة، والقوى الدولية والإقليمية التي تدعمها أو تقف وراءها. لذلك يظل ممكناً التوصل إلى حل يحافظ على وحدة سوريا، رغم أن المسافة بين نظام الأسد ومعظم الأطراف المعارضة ما زالت أبعد من أن تسمح بفتح ثغرة في الجدار السميك الذي يمنع الانتقال إلى مفاوضات جدية. وهذا يفسر تحول لقاءات جنيف إلى «طقس» سياسي تقتصر وظيفته على إبقاء الأمل في الحل، وتركيز لقاءات آستانة على خفض التصعيد في بعض المناطق. ورغم أن المنهج الذي اتُبع في أستانة قوبل باستهانة في البداية، بدأت النظرة إليه تتغير بعد إنجاز اتفاقية لخفض التصعيد في الجنوب (درعا والقنيطرة والسويداء) ثم في دمشق والغوطة الشرقية. ولعل أهم ما يُبشر به هذا المنهج هو إمكان الوصول إلى حل تدريجي للأزمة السورية عبر اتفاقات منفصلة في المناطق التي يتيسر فيها ذلك. فقد ثبت عقم محاولة حل الأزمة من أعلى عبر صفقة شاملة، وأصبح ضرورياً البحث عن حل يبدأ من أسفل، أي من القرى والبلدات والمدن. ويبدو أن منهج الحل من أسفل بات ممكناً بعد التوصل إلى اتفاقين لخفض التصعيد في منطقتين واسعتين. لكن تفعيله يتطلب صيغة جديدة تقوم على بناء ترتيبات لامركزية انطلاقاً من اتفاقات خفض التصعيد، وكذلك التسويات المحلية التي عُقدت منذ أوائل 2016، في إطار تصور لتطويرها تدريجياً. ومن شأن هذه الصيغة أن تترك مساحات من سوريا تحت سيطرة فصائل المعارضة المعتدلة، لكي تديرها بطريقة مستقلة مع ربطها رسمياً بمركز الدولة في دمشق، والذي يصير في هذه الحالة مركزاً رمزياً لا يملك صلاحيات مطلقة، ويفتقد القدرة على فرض إرادته في المناطق المستقلة ذاتياً. وينبغي تصميم هذه الصيغة بطريقة تضمن عملاً مشتركاً عبر وسطاء أميركيين وروس بين هذا المركز والوحدات المستقلة ذاتياً في محاربة الإرهاب. ويمكن أن يؤدي نجاح هذا العمل المشترك في الحرب على الإرهاب إلى تقويض ذرائع بقاء الميليشيات التابعة لإيران. وعندئذ يصبح إخراجها ضرورة لنجاح الترتيبات الجديدة في سوريا، والحرب على الإرهاب، في آن معاً. ويمكن لهذا العمل المشترك أن يؤدي أيضاً إلى إعادة هيكلة الجيش وقوى الأمن بشكل تدريجي. كما يتيح فرصة لبناء الثقة بين الوحدات المستقلة ذاتياً والمركز على نحو يمكن أن يُسهل إعادة ترتيب الأوضاع في دمشق، ويُتيح إمكانية لتشكيل سلطة انتقالية تكون –والحال هكذا– نتيجة متغيرات كبيرة ومعطيات جديدة توفر لها أسساً واقعية، وليست مصنوعة من أعلى. وعندما نتأمل هذه الصيغة نجد أنها ليست غريبة بالنسبة لروسيا التي قامت بالدور الرئيس في اتفاقات التسوية المحلية التي أدارها ضباطها من قاعدة «حميميم» طوال أكثر من عام. كما أن اتفاقات خفض التصعيد التي تبنت فكرتها منذ إطلاق مسار أستانة، يمكن أن تكون أساساً لتوسيع تلك التسويات التي تقوم على وقف القتال ومنح البلدات والقرى استقلالاً ذاتياً في إدارة شؤونها. وحين يراجع أركان إدارة ترامب ما طرحته مراكز التفكير الأميركية في الفترة الأخيرة سيجدون فيه أفكاراً في هذا الاتجاه بشكل أو بآخر. فقد أصدر معهد راند في العام الماضي تقريراً مهماً حول تقليص صلاحيات السلطة المركزية في دمشق، ومنح سلطات واسعة لمجالس محلية في إطار حكم ذاتي. كما قدم معهد بروكينجز في مطلع العام الجاري تصوراً مؤداه أن تسعى واشنطن إلى إقامة مناطق متمتعة بحكم ذاتي واسع في شمال سوريا وشرقها، على أن تبقى مرتبطة بالمركز ولا تنفصل عنه، في إطار خطة لمرحلة انتقالية تقود إلى مؤتمر دستوري لبناء اتحاد يتم الاتفاق على إطاره القانوني وترتيباته العملية. لقد حان الوقت لحل غير تقليدي لأزمة استعصت على الحلول التقليدية.