رأينا الأسبوع الماضي أن خطاب العاهل المغربي بمناسبة عيد العرش، قد أشار إلى جوانب النقص الذي تعاني منه عملية الإقلاع التنموي في البلد، رغم الإنجازات الهائلة التي تحققت في العقدين الأخيرين وفي ميادين اقتصادية كبيرة جلبت كبريات الشركات العالمية، كتلك المتعلقة بصناعة السيارات والطائرات والصناعات الدقيقة. ولكن مع ذلك نجد مغرباً آخر يعاني من تبعات التشخيص الصائب الذي جاء به خطاب عيد العرش، والمتجلي، كما رأينا، في نوعية العقليات التي ما زالت للأسف سائدة هنا وهناك، وفي ضعف الإدارة العمومية وفي طبيعة الأحزاب السياسية. وسنتطرق في هذه المقالة إلى العامل الثالث المحدد وهو الأحزاب السياسية في مجتمع سياسي مغربي مجاله العام هو مجال حزبي بامتياز. ونعلم أن الدول الغربية مثلاً لا يمكن أن يستقيم مجالها السياسي من دون التطور الدائم لأحزابها في المجال السياسي العام، وإذا ما تم التغاضي عن هذه القاعدة، كما وقع في فرنسا، فإن الناخبين الذين يملكون في جيوبهم سلاح العقاب الديمقراطي قد يزيحون أحزاباً من كرسي الحكم ولو كان عمرها يتعدى القرن، وأعني هنا أحزاب اليمين واليسار على حد سواء، كما بإمكانهم أن يوصلوا أيضاً حركة سياسية جديدة إلى قبة البرلمان وسدة الرئاسة كما وقع مع الرئيس ماكرون. نعلم أن المغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي منعت منذ استقلالها نظام الحزب الواحد ولم ينتمِ عاهل البلاد إلى أي حزب سياسي؛ لأن ذلك كان سيخالف محددات الشرعية القائمة في هذا البلد والمبنية على رباط تاريخي بين العاهل والشعب يعبر عنه في احتفال البيعة الذي تقيمه الأمة/ الجماعة بكل مكوناتها إضافة إلى سلالته الشريفة، وهذان العاملان يعطيان لملك المغرب شرعية تاريخانية ومؤسساتية دينية تنزهه عن الصراعات والتحزبات التي يمكن أن يعرفها المجال السياسي العام، ومثل هذه الشرعية كانت غائبة في تونس والجزائر عند الاستقلال، فاستندت شرعية النظام إلى الحزب الحاكم (تونس) أو إلى الجيش (الجزائر). وصحيح كذلك أن التعدد السياسي منذ استقلال المغرب كان تحت المراقبة، ولكن محددات السياسة في المغرب سمحت للمعارضة بالعمل السياسي والجرأة السياسية، حيث توالت المطالب بالإصلاحات الدستورية والسياسية عبر مذكرات رفعت إلى الملك في سنوات 1991 و1992 و1996 صاحبتها تعديلات دستورية لسنوات 1992 و1996؛ بمعنى أن المغرب استطاع أن يصل إلى المعادلة الإيجابية، لأن المعارضة فهمت أصول اللعبة التي لا تقتضي تغيير النظام ولكن العمل داخل المجال السياسي، وأن المعارضة السياسية يجب أن تكون بين الأحزاب داخل مجال عمومي جديد. وهذا الجو خلق قاعدة الضمانات المتبادلة، وهذا ما سمح في الأول لوصول المعارضة التاريخية إلى الوزارة الأولى سنة 1998 في شخص الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي، فكانت بداية تجسيد لبنات الميثاق التعاقدي في المغرب... صحيح أنه بعد حكومة اليوسفي أتت حكومة تكنوقراطية ترأسها إدريس جطو، ولكن الميثاق السياسي بقي ساري المفعول واستبدل منطق المواجهة ببناء الثقة كدليل على نضج اللاعبين السياسيين، قبل أن تأتي حكومة عباس الفاسي الاستقلالية التي كانت قد حصلت في انتخابات 2007 على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات التشريعية، وتترأس الحكومة، قبل أن يأتي دستور سنة 2011 ويخول الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية رئاسة وتكوين الحكومة، ومن هنا حكومة عبد الإله بنكيران وحكومة سعد الدين العثماني. هذا التذكير التاريخي يسمح لنا بالتأكيد على وجود إرث حزبي لا يمكن أن يعلى عليه مقارنة مع دول الجوار، وعلى وجود ممارسة سياسية حقيقية، وعلى مجال سياسي عام تتبارز فيه كل الأطياف السياسية التي أتت بها العلوم السياسية المقارنة، ولكن المشكلة الكبرى هي أنه رغم هذه المبشرات، فإن الأحزاب لم تغير نخبها ولا تساهم اليوم في تأطير المواطنين بالطريقة التي يجب. وليست القوانين والنصوص هي التي ستغيرها، وإنما هي عقليات مكوناتها التي يجب أن تتبدل، وهو التغيير المادي الفعلي لمفهوم الحزب السياسي ولمفهوم السياسة كشأن عام، وهذا يستلزم تحولاً جوهرياً في الثقافة الحزبية وفي الثقافة السياسية للمجتمع وفي ثقافة المجتمع المدني لتصل نصاب الثورة الثقافية. لم تفهم بعد الأحزاب السياسية هذه الرسالة التي بدونها لا يمكن تثبيت أسس الانفتاح السياسي الحقيقي، ولا يمكن السهر على تحقيق مصالح المواطنين، ولا النجاح في تحقيق التنمية والرخاء للمواطنين.