تستدعي تطورات الأحداث السريعة والصدام الواضح في الإرادات بين موسكو واشنطن التوقف والتساؤل عما الذي جرى؟ ولماذا يجري على هذا النحو؟ في الأيام القليلة المنصرمة كان الكونجرس بمجلسيه «الشيوخ» و«النواب» يقران تشريعاً جديداً يقضي بفرض عقوبات جديدة على روسيا والذريعة التقليدية موقفها من أوكرانيا ودورها في سوريا، عطفاً على مساندتها لبرنامج إيران النووي. التشريع الجديد يقيد دور الرئيس الأميركي في تخفيف العقوبات على الروس ما يجعل الكلمة العليا لرجالات الكونجرس، وغالباً فإن التشريع الجديد جاء لقطع الطريق على مرسوم رئاسي محتمل صدوره من قبل الرئيس ترامب لإصلاح ذات البين مع موسكو ورفع بعض العقوبات من الطريق لتحسين العلاقات بين البلدين. هل يفهم مما تقدم أن البعض في واشنطن لهم مصلحة ما في إيقاف عجلة المصالحة الأميركية – الروسية؟ مؤكد أن الإشكالية معقدة ومركبة، لا سيما وأن موسكو اليوم ونحن نقترب من نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، هي ليست موسكو في نهايات القرن الماضي، حيث الضعف العام الذي لف الاتحاد السوفييتي. روسيا بوتين اليوم قد فرضت موقعها كقوة ترسم المعادلات وليس كشريك للفاعل الرئيسي الذي تمثله الولايات المتحدة حول العالم، وقد كانت إخفاقات أوباما سبباً رئيساً في زخم دور روسيا حول العالم، لا سيما في الشرق الأوسط، وبخاصة في الأزمة السورية، حيث إن التردد الأميركي، قاد بوتين نحو ملء فراغات القوة. منذ عام الانتخابات الرئاسية، أبدى دونالد ترامب رغبة واضحة في تحسين العلاقات مع الروس، وقد ذهب في هذا الطريق مدفوعاً بأكثر من وازع، بداية من رؤيته للصين كعدو رقم واحد لأميركا، عطفاً على اعتباره أن الجماعات الأصولية والإرهابية حول العالم تمثل وحدة هدف مشترك بين البلدين. غير أن هذه التوجهات لم تكن أبداً لترضي «صقور» واشنطن من «المحافظين الجدد» أو أنصار «اليمين المتشدد» عطفاً على «يمين الوسط»، وبخاصة من «الجمهوريين»، أمثال السيناتور «جون ماكين» المرشح السابق للرئاسة، وأحد أبطال حرب فيتنام، ونظيره «الجمهوري» ليندسي جراهام، وغيرهم الكثير، وليس سراً أن هؤلاء ومن لف لفهم يقف وراءهم وبقوة المجمع الصناعي العسكري الأميركي، والذي عماده ووجوده الحروب والتلويح بها، وعليه فإن المصالحة والتوافق مع الروس من شأنه أن يترك المصانع الحربية وجنرالات الميادين بلا أي منافع أو أرباح. عطفاً على ذلك فإن غياب روسيا من جديد كعدو، أمر يربك واشنطن المحمومة دوماً بالبحث عن عدو يبرر لها فكرة طهرانيتها واستثنائيتها وحتمية قيادتها لعالم الليبرالية والدفاع عن المعذبين في الأرض، وجلها شعارات جوفاء لا حظ لها من صحة ولا نصيب من صواب. ما قام به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً من طرد نحو 750 دبلوماسياً وموظفاً إدارياً أميركياً من موسكو هو إجراء متوقع كرد فعل على قيام أوباما في ديسمبر الماضي بطرد دبلوماسيين روس من واشنطن، وإن كان التعقل الروسي قد دفع المسؤولين في موسكو للانتظار زهاء ثمانية أشهر تقريباً وعدم الرد الفوري، ما أظهر الفارق الواضح في التخطيط الاستراتيجي والعقلاني بين تكتيكات الأميركيين واستراتيجيات الروس. السؤال الآن: هل الوضع بين الدولتين الكبيرتين مرشح لمزيد من التصاعد؟ وهل المواجهة الساخنة مسألة حتمية؟ المتابع المحقق والمدقق لتصريحات الروس يرى أنها لا تتطلع إلى التصعيد أو تسخين المشهد، بمعنى أنها لا تريد إغلاق الباب أمام تحسين العلاقات أو ترك الأبواب الخلفية مفتوحة لتراجع أميركي. سؤال آخر: هل التشريع الجديد موجه للروس أم أنه بالأكثر يستهدف الرئيس ترامب نفسه؟ تبدو الإشكالية وكأن هناك صفقة خفية تدور ما بين كواليس الكونجرس من جهة، وحنايا الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من ناحية أخرى، إذ لا تزال قضية تجسس الروس على الأميركيين وعلاقة ترامب بالروس تشتعل يوماً تلو الآخر، وينكشف الستار رويداً رويداً عن علاقات الأفراد من عائلته مع أطراف روسية. في هذا السياق تتساءل بعض وسائل الإعلام الأميركية: هل ما يجري داخل واشنطن هو نوع من المواءمات السياسية بين النواب والشيوخ وبين البيت الأبيض، بمعنى محاولة التوصل لصفقة مفادها أن يكف ترامب عن محاولات الاقتراب السلمية من الروس، وفي المقابل يهدئ الجميع من سرعة التحقيقات في علاقة ترامب بالروس والكف من ثم عن مسألة إزاحة الرئيس من السلطة؟ يمكن القطع بأن حرباً ضروساً تدور رحاها في واشنطن بين الرئيس القادم من خارج المؤسسة الأميركية التقليدية وبين الدولة الأميركية العميقة بأعضائها ومؤسساتها وشبكة مصالحها وأهدافها. تدفع سياسات الكونجرس الروس والأوروبيين إلى التفكير الجدي في الطرح الأوراسي، أي مشروع الوحدة «اليوروآسيوية» الذي حلم به شارل ديجول ذات مرة في ستينيات القرن المنصرم، ويلوح في الأفق قناعة به اليوم لدى ميركل وبوتين معاً في مواجهة الأوليجاركية الأميركية. الخلاصة... العقوبات لا تفيد. *كاتب مصري