تختلف الآراء حول ماهية النظام الدولي الذي نعيش في رحابه وركابه الآن، ولكن تقدير الأوزان النسبية للقوة فيه لا يمنع من وجود اتفاق بين كافة الأدبيات السياسية حول بعض سمات النظام الدولي الراهن وقسماته، والتي يمكن ذكرها على النحو الآتي: 1- هو نظام يقوم على معطيات الثورة الصناعية الثالثة التي تعتمد على حدوث طفرة هائلة في مجال المعلومات والتدفق اللانهائي للمعرفة بشتى ألوانها، الأمر الذي وضع دولاً غربية في مرحلة «ما بعد الحداثة»، بينما لا تزال دول في العالم الثالث تجهد من أجل الخروج من إسار التقليدية إلى التحديث، بمختلف جوانبه الاقتصادية والفكرية والاجتماعية. وهذه الفجوة أو هذا الاختلال بين قدرات الدول، جعل النظام الدولي الجديد، يحمل في باطنه اتجاهاً قوياً إلى التقليل من انتشار القوة. بل إن هذه القوة بدأت تنحسر بحيث تصبح في نهاية المطاف محصورة في دولة كبرى مركزية، هي الولايات المتحدة، لا تحتاج إلى شركاء أكفاء بل إلى متعاونين أو تابعين. 2- بروز النزعة العسكرية الأميركية، بعد غياب المعسكر الاشتراكي، حيث انهار الاتحاد السوفييتي، وتساقطت النظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية، الواحد تلو الآخر. وعلى الرغم من أن بعض الأحزاب اليسارية في هذه الدول قد كسبت عدة جولات انتخابية، سواء على مستوى المحليات أو الانتخابات التشريعية، وحدث الشيء نفسه في بلدان عديدة من أوروبا الغربية، فإن «الاشتراكيين الجدد»، يختلفون كثيراً في نواحٍ عديدة عن الاشتراكيين القدامى، فيما يخص التأثير على التوازن الدولي، فحكومات الأحزاب اليسارية هذه، لم يعد من أهدافها الملحة العمل في الساحة الدولية ضد المصالح الأميركية، وحتى لو أرادت فإن السياق الذي تعمل فيه لن يسمح لها بذلك. 3- بروز التكتلات الاقتصادية الدولية الكبرى مثل «الجات»، ومنظمة شمال أميركا، والتجمع الاقتصادي لدول البحر الباسفيكي، والآسيان، والاتحاد الأوروبي. 4- انطلاق ثورة في مجال الاتصالات حولت العالم إلى قرية عالمية Global Village، وأعادت النظر في بعض المفاهيم السائدة في حقل العلاقات الدولية، مثل «سيادة الدولة». فالأقمار الاصطناعية تجوب الفضاء، وتكشف كثيراً مما كانت الدول في الماضي تعتبره أسراراً. وشبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» لا تتوقف عن ضخ الكثير مما كانت الأنظمة الحاكمة في بعض الدول تتعمد حجبه عن شعوبها. وشبكات التلفزيون الفضائية تلاحق الناس في كل مكان بالأخبار والتحليلات والبرامج عن مختلف القضايا، الأمر الذي يندرج في سياق العولمة، التي تعني تفاعلاً على مستوى عالٍ بين البشر في مواقع متفرقة، ليس بمفهومها الجغرافي فحسب، بل بالمعنى السياسي والاجتماعي أيضاً. 5- بروز قضايا جديدة على «الأجندة» الدولية مثل تلوث البيئة وتعاطي المخدرات ونشوب النزاعات المسلحة المحدودة والهجرات المنظمة من الجنوب إلى الشمال. وبعد الحادي عشر من سبتمبر تصدرت قضية «مكافحة الإرهاب الدولي» جدول أعمال غالبية، إن لم يكن جميع، المؤتمرات الإقليمية والدولية، ولاسيما بعد وصول الإرهاب إلى عقر دار الغرب على يد تنظيم «داعش». 6- تهميش العالم الثالث بفعل تمكن الثورة الصناعية في الغرب من إيجاد بدائل لبعض المواد الخام التي تنتجها الدول النامية، والضغوط التي مورست من أجل إقرار اتفاقية منظمة التجارة العالمية التي من شأنها أن تضعف، إن لم تقض، على التجارب الصناعية الوليدة أو الآخذة في النمو. وتزامن هذا مع تراجع الدور السياسي لدول العالم الثالث، حيث ضعفت مؤسساتها التي كانت تحظى بنفوذ كبير خلال فترة الحرب الباردة، مثل حركة عدم الانحياز، التي نجحت لعدة عقود في أن تنأى بهذه الدول عن دائرة الاستقطاب الدولي وتنحت لها دوراً في سياق توازنات دولية بين الكتلتين الرأسمالية والشيوعية. 7- تضاؤل دور المنظمات الدولية الكبرى، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، التي ضعفت جمعيتها العامة لحساب مجلس الأمن، وضعف هو أيضاً بدوره لحساب الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة في الفترة الأخيرة. 8- الترويج المكثف لبعض القيم والاتجاهات السياسية مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعولمة، التي لا تقتصر على الجوانب السياسية والاقتصادية فقط بل تمتد أيضاً إلى المجالات الاجتماعية والثقافية. وقد تم استخدام هذه القضايا الكبرى كأوراق ضغط أحياناً من قبل دول غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة، على دول أخرى، ليس بالضرورة انتصاراً لهذه القيم أو دفعاً على درب هذه الاتجاهات، وإنما لخدمة مصالح ضيقة ومحددة للدول الضاغطة.