بعد نحو ستين سنة من بداية حركات الاستقلال في بلادنا عاد العرب إلى المربع الأول، وكأن عدة عقود من الزمن رفعت فيها شعارات البناء والتنمية المستقلة والحرية قد ذهبت سدى، وباتت أغلب الشعوب العربية في حاجة إلى التفكير في جراحات سياسية واجتماعية عميقة، يمتلك فيها الناس ناصية القرار، ويتولون زمام أنفسهم، ويسلكون الطريق المثلى التي مرت بها شعوب أخرى، فارتقت درجات متقدمة، وحسّنت من شروط الحياة في بعديها العام والخاص، تحت راية الدولة الوطنية المتفق عليها. وللعودة إلى المربع الأول مظاهر شتى، في مطلعها وقوع بلاد عربية في براثن الاحتلال من جديد، فالعراق احتلته قوات غربية تقودها أميركا، وسلمته لاحتلال إيراني متوارٍ، وسوريا تعج بالفوضى، واليمن أدخله الحوثيون وقوى النظام القديم في نفق مظلم ويعيش تحت حرب مستعرة، والصومال لا يزال يعيش أحوال عدم الاستقرار منذ عقدين، وليبيا تتمزق كل يوم. ولبنان ليس بمنأى عن هذا، فطوائف وتيارات سياسية لبنانية تعطي قلبها وعقلها للخارج. وقطر تشذ عن الصف الخليجي فتؤثر سلباً على مجلس التعاون الذي احتفظ بتماسكه أكثر من ثلاثة عقود، ودول عربية كثيرة تعاني من الإرهاب تارة، ومن «استعمار جديد» يلبس لبوس التبعية، والرضوخ للهيمنة الأجنبية، إما رضوخاً سياسياً واقتصادياً في بعض دولنا، أو رضوخاً اجتماعياً وثقافياً في أخرى. والمظهر الثاني هو سقوط الشعارات الكبرى التي رفعتها حركة التحرر العربي، وفشل البرامج التي تبنتها في أن تصمد أمام التغيرات الداخلية والخارجية، وتحقق ما تصبو إليه الشعوب. فها هي ثورة يوليو المصرية، التي فتحت الباب أمام ثورات العرب وكفاحهم لنيل الاستقلال، تنتهي إلى أطلال، لا تستحق سوى الرثاء، فعبد الناصر ورفاقه رفعوا شعار «حرية- اشتراكية- وحدة» كلافتة عريضة للعرب جميعاً من الخليج «الثائر» إلى المحيط «الهادر»، ورفعوا مبادئ ستة لثورتهم، في مطلعها «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، ولكن الحرية لم تتحقق، بل صودرت لحساب السلطة، فصارت فقط هي حرية الزعماء في أن يفعلوا بشعوبهم ما يشاؤون، والاشتراكية داسها الانفتاح الاقتصادي في زحفه نحو تدشين رأسمالية عربية مشوهة، يقودها رجال أعمال لا يلتفتون كثيراً إلى الاحتياجات الحقيقية لمجتمعاتهم. والوحدة انتهى بها المطاف إلى أن يرضى العرب بالحد الأدنى من التنسيق بينهم، ويقولون جميعاً بملء أفواههم إن جامعة الدول العربية كيان هش مريض، لكن بقاءها على قيد الحياة، حتى ولو في غرفة الإنعاش، أفضل من حلها، أو فض هذا السامر العربي، الذي تغلب عليه المجاملات، أكثر مما ينحاز إلى المصالح الحقيقية. أما المظهر الأقسى والأكثر مرارة فهو تحول من بيدهم الأمر في بعض البلاد العربية إلى حال شبيهة بما كان عليه المستعمر الأجنبي، من حيث البون الشاسع بين من هم في سدة الحكم وبين شعوبهم، أو في النهب أحياناً لقدرات وإمكانات هذه الشعوب، الأمر الذي أفقد أغلب النظم العربية حالة الرضا الواجبة من المحكوم للحكم. وهذه المقارنة لا تعني أبداً الانتصار لزمن الاحتلال، فكل احتلال بغيض حتى لو أظهر أكبر قدر من المرونة والنعومة الزائفة التي لا ترمي إلا إلى إطالة عمر المستعمرين، ولكن الموازنة بين هذين الحالين تبين حجم الفجيعة التي أصابتنا من نخب ما بعد الاستقلال، التي تقدمت الصفوف بعد كفاح مرير للشعوب العربية ضد المحتلين، جرت فيها الدماء أنهاراً، وعقد عليها الناس آمالاً عريضة في أن تبني وتفتح أبواب الحرية ونوافذها عن آخرها، وتسمح للشعب، صاحب الحق الأصيل في جني ثمار الاستقلال، بأن يصنع القرارات التي تحقق مصالحه، وتتحكم في مصيره، إلا أنها خيبت الظنون، وجعلت بلادنا قابلة للاستعمار مرة أخرى، بهشاشتها الاجتماعية وضعفها الاقتصادي واستبدادها السياسي واستمرار عوامل انقسامها وصراعها الداخلي، وهي أمور يستغلها المحتلون في الوقت الراهن استغلال ظاهراً، برفعهم مبدأ «الفوضى الخلاقة»، الذي ينبني في الأساس على توظيف كل ثغرات الجسد العربي، ويجعل منه كياناً سياسياً مريضاً، قابلاً للغزو والاحتلال. إن العرب باتوا على أبواب التقسيم الثاني، أو ما يحلو للبعض أن يسميه «سايكس- بيكو 2»، ولا مجال للخروج من هذا إلا بإيقاظ وعي الشعوب حيال التمسك بالدولة الوطنية، والإبقاء على وحدة ترابها، ثم العمل الدؤوب أو النضال من أجل أن تصبح عادلة بين كل مواطنيها بغض النظر عن اختلافهم وتنوعهم في كل شيء.