قراءة المشهد السعودي، في شقيه الثقافي والفكري، أصبحت ضرورة عربية، لما يَحْمِلُه من تطورات ستؤدي لا محالة إلى تغيير آن وقته، يأتي متزامناً مع استراتيجية عامة على النحو الذي طرحته رؤية 2030، النظرة المستقبلية ذاتها، وقد شغلت فيها الثقافة، على المستوى المؤسساتي والمنجز المعرفي، حيزاً كبيراً، وبدت جليَّةً في وعود رسمية تَشِي بمعطيات راهنة سيتم تحقيقها في المستقبل المنظور. ورغم تلَبُّد سماء الحياة السياسية والاقتصادية في السعودية وفي الوطن العربي كله بسحب قد لا تكون ممطرة بما يجعل الأرض مُخْضرَّة ومُزْهِرةً، إلا أن الحياة الثقافية في السعودية بديموماتها وتأثيرها وآفاقها الحاضرة والمستقبليّة في جميع المجالات بدءاً بالإبداع وليس انتهاءً بالبحوث الأكاديمية، تحضّرنا جميعاً لتغير إيجابي ميراثه رسالة النبوة وانتشارها في العالم كلّه، والدليل على ذلك حركة التدافع الثقافي والفكري، ففي السعودية اليوم يتسع الفضاء لآراء مختلفة من مدارس ومذاهب فكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بمشاركة أجيال مختلفة تعدّت مرحلة التنظير إلى البحث عن سبل للتطبيق، دون أن يُخِلَّ ذلك بالمتعة أو المنفعة، صحيح أن حرب الأفكار تبلغ ذروتها أحياناً، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها تنتهي في الغالب إلى عجز عن الإقصاء، مما سيؤدي في المستقبل إلى التعايش، ثم التعاون. الحضور الثقافي السعودي اليوم على المستوى العربي، يعدُّ قفزة نوعية، لثلاثة أسباب رئيسة، أولها: أنه حقَّقَ الاعتراف به قومياً، وحصل على شرعيّة طال انتظارها، شرعية افتقدها الوطن الأول للرسالة، منذ أن انتقلت السيادة والحكم خارج المدينة المنورة إلى دمشق والعراق والقاهرة والأندلس وغيرها، وثانيها: أن المنجز السعودي المعرفي يخوض حرباً أشد ضراوة، وأكثر أهمية من تلك الثورات الثقافية التي تدور رحاها في كل الدول العربية الأخرى، حيث المساءلة للحاضر وللتراث والتاريخ لا حدود لها، في مجتمع فيه سلطة تقليدية من النخب تقف ضد التجديد والحداثة، أُوتِيَت من القوة المادية والمعنوية ما يؤهلها للانتصار منذ المعركة الأولى، مع ذلك فهي تتكبّد الخسائر في عدد من المواقع، وثالثها: أن ذلك الحضور جزء من الحالة السعودية العامة في مختلف المجالات الأخرى، بغض النظر عن اختلافنا أو تأييدنا للمواقف الرسمية، المناقضة أو الملغية أحياناً لدور النخبة السعودية في إيجاد نوع من التوازن، أو مدّ جسور، أو العمل على اكتشاف السعوديين من طرف العرب. الحضور الثقافي السعودي مَنْبَعه الداخل، ولكنه مَصَبّاته ستكون في معظم الدول العربية قريباً، ويحق لنا أن نقول بفخر واعتزاز من منطلق خلفيتين إيمانية وقومية: إننا نحن العرب نعيش اليوم في الحقبة الثقافية السعودية، وهي إضافة نوعية لنا، ونحن في حاجة إليها في ظل تراجع حواضر ثقافية عربية، وهذه الحقبة هي جزء من نهضة عربية في الخليج، تبدو إرهاصاتها أكثر جلاءً في تجربة الإمارات الثقافية. من ناحية أخرى، فإن الحضور الثقافي يُعدُّ حركة فكرية وأدبية واسعة، يمكن رصدها ضمن مشاهد حيّة، من ذلك قراءة المنتج الأدبي السعودي من رواية وشعر وقصة قصيرة، وأيضاً مطالعة الدراسات النقدية والاجتماعية والاقتصادية.. إلخ، وكذلك متابعة جلسات الحوار والنقاشات الدائرة في مختلف الساحات والمجالس والنوادي الفكرية والأدبية.. كل ذلك يعني أن السعودية تصنع اليوم مصيرها الثقافي من خلال حركة نهضوية واعية، وأنها تدخل بجد وحبّ عبر نخبها المثقفة في ربيع سعودي واعد، أزهاره لكل العرب، إلا من اكتفى منهم برؤية وقَطْف الشَّوك.