لم يعتمد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون على دراسة وافية للأزمة الناتجة عن السياسات القطرية عندما وقع مذكرة تفاهم بشأن وقف تمويل الإرهاب خلال زيارته الدوحة الأسبوع الماضي. وفي غياب مثل هذه الدراسة اللازمة لإجراء تقدير دقيق للموقف، يمكن أن تقع أية دولة، كبيرة كانت أم صغيرة، في خطأ دون أن تقصد. لم يدرس تيلرسون ومساعدوه جيداً معطيات الأزمة، ولم تضع الإدارة الأميركية تصوراً متكاملاً بشأنها. وفي غياب مثل هذا التصور وتلك الدراسة، ربما يتعذر إدراك أخطار تجزئة الحل وعدم التعامل مع ورقة المطالب الثلاثة عشر كحزمة واحدة، وتصور إمكان تحقيق هذا الحل على مراحل، ولعل هذا كان بعض ما سمعه من وزراء خارجية الدول المقاطعة لقطر في اجتماع جدة الأربعاء الماضي، ودفعه للعودة إلى الكويت ثم إلى الدوحة. لكن المهم أن يدرك تيلرسون، وأركان إدارة الرئيس ترامب عموماً، أن هذه الأزمة اختبار صعب للدور الأميركي ومدى فاعليته، وأن على واشنطن العمل لتدارك الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على توقيع مذكرة تفاهم مع قطر بمعزل عن ورقة المطالب الثلاثة عشر، وأهم هذه الآثار توجيه رسالة خاطئة توحي لحكام الدوحة بأن في إمكانهم الالتفاف مجدداً على استحقاقات طال أمد التهرب منها، وأنهم يستطيعون استغلال حرص المجتمع الدولي على الاستقرار في منطقة الخليج للحصول على مساحة للمناورة والمراوغة. يحتاج وزير الخارجية الأميركي إلى تأمل تجربة الدول التي فرضت عقوبات على حكام الدوحة بعد أن وصلت جهودها لإقناعهم بوقف دعم الإرهاب إلى طرق مسدودة منذ توقيع اتفاقيتي الرياض في نوفمبر 2013 ونوفمبر 2014. ودلالة هذه التجربة أنه لم يعد مجدياً الاعتماد على تعهدات غير مصحوبة بترتيبات وإجراءات سياسية وقانونية ملزمة، وآليات مراقبة صارمة. وعلى سبيل المثال فقط: يتطلب منع تمويل الإرهاب آلية محكمة لمراقبة مختلف التدفقات والتحويلات المالية الخارجة من قطر، وتتبع مساراتها بدقة، ففي حالة التحويلات المصرفية مثلاً، تتعذر معرفة المستلم النهائي للمال من دون تتبع مسار التحويل الذي يمكن نقله من مصرف إلى آخر، ومن حساب إلى غيره، لإخفاء العلاقة بين مَن أرسل المال ومَن حصل عليه في نهاية المطاف. وتكتسب أية آلية مراقبة من هذا النوع فاعليتها من ارتباطها بمنظومة متكاملة من الإجراءات استناداً إلى ورقة المطالب الثلاثة عشر، فالمسألة أكبر بكثير من مذكرة تفاهم جزئية ومنبتة الصلة بأية منظومة فاعلة يمكن الاطمئنان إلى أنها ستحقق هدفها، وتؤدي إلى وقف الدعم القطري للإرهاب بمختلف جوانبه المالية والسياسية والإعلامية واللوجستية، ولا يتيسر ذلك إلا عبر منظومة متكاملة، لأن اجتزاءها يفتح منافذ للإفلات منها. وعندما تدرس إدارة ترامب تفاصيل الأزمة بشيء من العمق، سيلاحظ أركانها أن عدم التزام قطر باتفاقي الرياض يعبر عن استعدادها حال تضييق الخناق عليها لقول ما تضمر نقضه، وسيعرفون مغزى إصرار الدول المقاطعة على عدم إعطائها فرصة جديدة للمراوغة، أو منحها أملاً في الإفلات من استحقاقات يتعذر التطلع إلى مواجهة حاسمة ضد الإرهاب دون الوفاء بها. وسيتضح لهم عندئذٍ أن تيلرسون أغفل أحد أهم دروس تجربة اتفاقي الرياض عندما أقدم على توقيع مذكرة تفاهم غير ملزمة وفق القانون الدولي، وتفتقر إلى أية آليات تنفيذية لا محل لها أصلاً في مثل هذه المذكرة التي لا تتضمن بحكم طابعها سوى خطوط عامة، فضلاً عن أنها مذكرة جزئية لا تتطرق إلا إلى جانب واحد من جوانب أزمة لم يعد ممكناً إنهاؤها من دون معالجة مختلف هذه الجوانب في إطار صيغة متكاملة. وإذا نظرنا إلى تحرك وزير الخارجية الأميركي على هذا النحو، ربما نجد أن المشكلة تكمن في إغفاله خلفيات الأزمة، وفي مقدمتها دروس اتفاقي الرياض، وليس في انحيازه إلى حكام الدوحة حتى وإن حملت بعض تصريحاته معنى هذا الانحياز. وهذا خطأ سياسي ما كان للدبلوماسية الأميركية أن تقع فيه مهما كان حرصها على عمل أي شيء من أجل ما يسميه تيلرسون منع تصاعد الأزمة، لكن يمكن تصحيح هذا الخطأ بأن تضع واشنطن تلك المذكرة في إطار العلاقات الثنائية، وأن تواصل دورها في السعي إلى حل لا يتيح لحكام الدوحة الإفلات من استحقاقات لا بديل عنها لخوض مواجهة حاسمة ضد الإرهاب.