صدر لي مؤخراً مع فقيه القانون الدستوري أندري كابانيس عن دار النشر الفرنسية العالمية «لارمتان» بباريس، كتاب باللغة الإنجليزية، تناول موضوع الدستورانية المغربية والشأن السياسي الوطني بنظرة مقارنة مع دول المغرب العربي، ومع أزيد من خمسة وعشرين دستوراً في العالم في الجانب القانوني منه. والملكية في المغرب اضطلعت بدور تاريخي كبير في صنع وتجذير مبدأ التضامن الديني والمدني للاجتماع الإنساني والسياسي المغربي حيث منح السلطة فيه مضموناً على درجة من الحداثة عميقة، وجعل السلطة سلطة عمومية معروضة للتداول تمتنع على الاحتكار والاستئثار تحت أي ظرف من الظروف.. فالمغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي منعت منذ استقلالها نظام الحزب الواحد، ولم ينتمِ عاهل البلاد إلى أي حزب سياسي لأن ذلك كان سيخالف محددات الشرعية القائمة في هذا البلد والمبنية على رباط تاريخي بين العاهل والشعب يعبر عنه في احتفال البيعة الذي تقيمه الأمة/ الجماعة بكل مكوناتها إضافة إلى سلالته الشريفة. وهذان العاملان يعطيان لملك المغرب شرعية تاريخانية ومؤسساتية دينية تنزهه عن الصراعات والتحزبات التي يمكن أن تعرفها الأمة/ الجماعة. ومثل هذه الشرعية كانت غائبة في تونس والجزائر عند الاستقلال، فاستندت شرعية النظام إلى الحزب الحاكم والمهيمن (تونس بورقيبة وتونس بن علي) أو إلى الجيش (الجزائر)... ولهذا نفهم طبيعة الاستثناء السياسي المغربي في المخاض السياسي الكبير الذي عرفته مناطق مغاربية وعربية مجاورة، فالملكية كانت ولا تزال قوة متكيفة ومنفتحة وقادرة على دفع منظومة «التعاقد» و«المواطنة» و«الإجماع» إلى الأمام دون أي تهييج ولا تثوير مجتمعي وكيفما كانت نوعية الفاعلين السياسيين المتواجدين داخل حلبة الصراع السياسي. كما أن الدستورانية الحديثة هي وسيلة لتأكيد الهوية الوطنية للدولة. فهي أولًا تحيل إلى وظيفة الترشيد القانوني في إطار الدولة- الأمة، ثم إلى نوعية الإدماج السياسي الذي يشكل وظيفتها الأساسية. ويهدف الترشيد من بين ما يهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية وكذا أشكال الحكم الناتجة عنها، عن طريق إخضاعها لمجموعة من المبادئ. ولكن ترشيد الوجود السياسي لمجتمع تاريخي لا يمكن تصوره إلا في إطار الاندماج السياسي. أي أن الدستورانية لا تزال، في نفس الوقت، حصيلة ترشيد الحياة السياسية وأيضاً نتاج الوعي والإجماع من قبل كافة القوى السياسية والاجتماعية. فالدستور يساهم، من خلال وظيفته التنظيمية المحددة، في تحقيق الاندماج الوطني أو فشله، لأنه هو التعبير أو عدمه عن حياة الجماعة، ولأنه يولد الولاء الذي يعتبر حجر الزاوية في مجتمع من هذا القبيل. وفي الأنظمة السياسية التي توجد في مرحلة الانتقال الديمقراطي، لا يمكن إلا للدستور وحده إضفاء الشرعية على العملية السياسية برمتها من خلال تحصين الأنظمة المعنية ضد الممارسات الاستبدادية البائدة. ثم إنه مع الأحداث التي عرفتها العديد من دول المنطقة ابتداء من سنة 2010، كانت الأرضية السياسية والمؤسساتية جاهزة للانتقال بالتجربة الدستورية المغربية إلى ما سميته مع البحاثة الفرنسي كابانيس، بدستورانية الجيل الرابع، فقد أدخل المغرب إلى مدرسة الدول الديمقراطية المعروفة بـ«الانتقال الميثاقي» وهنا يتجلى الحس الاستباقي للمؤسسة الملكية في دولة الأحزاب، وهو أن التجاوب كان انطلاقاً من انتظارات الشباب وليس انطلاقاً من مآخذ الأحزاب المحدودة ومطالبها.. فوجدت الأحزاب السياسية نفسها تدخل في عملية فريدة لم تكن فاعلاً رئيسياً فيها.. ومع ذلك فإن التوقيع على أي ميثاق سياسي أو أية عملية سياسية مهما كان نوعها لا يمكن إلا أن يكون في إطار الأحزاب.. وقد يخطئ المتطفل أو المبتدئ في المجال السياسي العام في دول كليبيا والعراق عندما يظن أن تجذير الأمن المجتمعي والسلم العام يمكن أن يتحقق من دون توافق وبدون إرضاء عام وبدون شروط الذكاء والدهاء ليشمل كل الأطياف المجتمعية.. وهذا يتطلب تنازلات دائمة خاصة من الفاعلين الجدد (وهو أمر لم يفهمه «الإخوان» في عهد مرسي) لإحداث انتقال ديمقراطي ناعم.. كما أن هذا يتطلب أيضاً دهاءً سياسياً من الحاكم وأتباعه من النخبة السياسية في الحكم، ومن المجتمع المدني والسياسي في المعارضة.