منذ ثلاث سنوات تقريباً، ألقى خادم الحرمين الشريفين المرحوم الملك عبد الله بن عبد العزيز خطاباً مؤثراً مازلت استحضره لقوة الكلمات والمعاني، إذ أشار إلى أن المتخاذلين عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة سيكونون أول ضحاياه في الغد، وكأنهم بذلك لم يستفيدوا من تجربة الماضي القريب، والتي لم يسلم منها أحد.. ودعا الملك عبدالله بن عبد العزيز، قادة وعلماء الأمة الإسلامية إلى أداء واجبهم والوقوف في وجه «من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم بأنه دين التطرف والكراهية والإرهاب»، محذراً من فتنة «وجدت لها أرضاً خصبة في عالمينا العربي والإسلامي، وسهّل لها المغرضون الحاقدون على أمتنا كل أمر، حتى توهمت بأنه اشتد عودها، وقويت شوكتها، فأخذت تعيث في الأرض إرهاباً وفساداً، وأوغلت في الباطل». وهكذا فإن الإرهابيين «شوهوا صورة الإسلام بنقائه وصفائه وإنسانيته، وألصقوا به كل أنواع الصفات السيئة بأفعالهم وطغيانهم وإجرامهم». وهذا ما نتلمسه يوماً بعد يوم في بعض المجتمعات، خاصة الغربية منها، إذ بدأت تتأصل في أذهان الناس صور نمطية وأفكار سلبية عن المسلمين كيفما كانوا، ولم يعد يسلم من هاته الأفكار الرجل الغربي العادي أو الجامعي أو المثقف، خاصة مع تنامي ظاهرة الإرهاب الجهادي في عقر ديارهم. فمنذ سنة 1996، تعيش المجتمعات الغربية في مشكل عويص مع نوع من الشباب: بعض من شباب الجيل الثاني من الجالية المسلمة المقيمة في فرنسا، وبعض من الشباب الغربي الذي دخل إلى الإسلام. فالمشكل عندهم ليس هو مشكل «الخلافة»، وإنما المشكل يكمن في توجهات شبابية جديدة تتأثر بـ«داعش» وأخواتها.. فيرتمي البعض منهم في أحضان الإرهاب متوهماً أنه يثأر للإهانة التي تصيب بعض المناطق العربية الإسلامية. فلسنا إذن، كما يكتب المفكر «أوليفيي روا» في مواجهة راديكالية الإسلام وإنما في مواجهة أسلمة الراديكالية. ولا يجب أن ننسى أن البعض من هؤلاء كان لا يمارس الشعائر الدينية بتفان ومواظبة، كما أن البعض الآخر قضى جزءاً من حياته في السجون، ثم بين عشية وضحاها أضحوا راديكاليين يتبنون تصوراً دينياً يلغي كل شيء، ويدّعون احتكار الدين الحق، ويزعمون أنهم وحدهم على جادة الإيمان والحق المطلق، ليرموا غيرهم باتباع الباطل ويدعون أن الجهاد جائز في كل مكان وضد كل من يدخل في إطار الجاهلية الأولى أو الكفر بالنسبة لهم. وبالرجوع إلى خطاب المرحوم الملك عبدالله، لا يجب أن ننسى المشكلة المستعصية الأخرى التي ليس لها من دون الله كاشفة، وهي تواجد المشاحنات الطائفية والمذهبية، والبيئة النفسية المسكونة بالغبن والحرمان والظلم في العديد من البلدان كالعراق، والتي خرجت من جوفها فيروسات إرهابية عابرة للحدود والقارات كـ«داعش»، حيث إن نماءها أسرع من أخطر فيروس معروف في مجال الطب، إذ ابتلعت في تاريخها مساحات شاسعة في ظرف أسابيع معلومات. ولأزمة الدولة الوطنية في العراق اليوم مثلا مظهران: أزمة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية والإثنية، وأزمة الغزو الجهادي التكفيري الخارجي الذي يمزق النسيج الاجتماعي العراقي. ولا يظنن أحد أن الرد على ذينك الخللين يكون بتعديل الميزان وتغليب كفة فريق على آخر، أو بتكريس قسمة الحقوق الطائفية والمذهبية والإثنية، وإنما يكون بالخروج عن هذا النظام العصبوي برمته إلى نظام وطني جامع قائم على علاقات المواطنة والاندماج الاجتماعي والوطني. وليس ذلك بعزيز على العراقيين، ولا بغريب عن تاريخهم السياسي المعاصر، إن اجتمعت إرادتهم على ذلك، واستقلوا بقرارهم السياسي والسيادي. قد تطول الطريق إلى هذا الهدف، لكنها وحدها السبيل إلى إعادة بناء الوطن والدولة في أقطار التفكك والتقسيم والحرب الأهلية التي تقترحها الطائفية والمذهبية على البلد وشعبه. القوات العراقية اليوم بصدد القضاء على آخر معاقل «داعش» في الموصل، لكن إذا لم يصحح الخلل المجتمعي والهندسة السياسية الخاطئة، وإذا تم تخاذل كل الفاعلين عن أداء مسؤولياتهم التاريخية ضد الإرهاب من أجل مصالح وقتية أو مخططات مشبوهة في هذا البلد أو غيره، فستنشأ منظمات إرهابية جديدة ومسارات دموية لا متناهية على أرض المسلمين وفي الدول الغربية على السواء.