قبل التوقف عند سُبُل التفاعل الأمثل مع الخلافات الثقافية والتعددية الثقافية بين الحضارات، لابد لنا من التوقف أولاً عند أرضية نظرية تساعدنا على هذه المهمة، ونجدها لدى الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، الذي يرى أن الأصل في الكلام هو الحوار، ولكن دخلت بعد ذلك على الحوار تهديدات وضبط وما إلى ذلك، وللحوار أهميات متعددة المستويات، منها أهمية آلية وأهمية داخلية وأخرى خارجية. وبالنسبة للأهمية الآلية، فالحوار يعطي حقوقاً ويوجب واجبات، يعطيك حق الاعتقاد أن تقول ما تريد، وأن ترى الرأي الذي تريد، ويعطيك أيضاً حق الانتقاد في حدود المسؤولية، ولكنه أيضاً يفرض واجبات منها أن من اعتقد شيئاً فعليه أن يستدل عليه، فلابد من تقديم الأدلة على الاعتقاد، ولابد للمنتقد الذي يطالب بالأدلة أن يستمع أيضاً إليها. وإذن فالحوار، يضيف طه عبد الرحمن، هو الهِبة الإلهية للإنسان على أن يطور أساليب الاستدلال على الأشياء. وهناك الأهمية الداخلية: فالحوار يعود بك إلى الأصل، لأن الإنسان ليس مفرداً، وإنما هو جمع وفرد في مجتمع، فمعنى هذا أن العملية الحوارية متوافقة مع أصل الإنسان من حيث إنه جمع وليس فرداً كما اشتهر وكما رسخّ المحدثون في عقولنا الإنسان جمعاً وليس مفرداً وليس فرداً. إن الحوارية موجودة لوجود الجمع الإنساني في المظهر الفردي للواحد، فإذن بقدر ما أمارس الحوارية مع الآخرين من خارج الذات ففي الحقيقة أتعرف على الآخرية الموجودة أيضاً في هذه الذات، وبمعنى آخر أن الحوار الذي أطالب به مع الآخرين، والذي يعطينا فرصة للاستدلال وتقوية هذا الاستدلال وتنميته هو في الحقيقة ممارسة لمعرفة الذات لنفسها، فحواري مع الآخرين هو حوار لمعرفة الذات. وأخيراً، هناك الأهمية الخارجية وهي معلومة إذ إن الحوار مع الآخرين واجب إنساني ينبغي أن يعم كل الفئات، لأن في تحقيق هذه الحوارية وتوسيعها مع جميع الأطراف زيادة في معرفة الذات وزيادة في تحقيق الإنسانية وزيادة في تحقيق القوة الاستدلالية للإنسان. إن المبدأ الحواري وسمة الاختلاف هي أهمّ ما يميز الحضارة الإسلاميّة، حضارة اللغة والخطاب، وذلك بدايةً من الكتاب الذي يمثّل الخطّ الناظم لهذه الحضارة وما تنتجه من معارف، أي القرآن الكريم الذي يعتبر كتاباً ذا نصّ حواري، وحجاجي، يقوم على المحاورة وذلك من خلال صيغ حجاجيّة تقوم على الاستفهام والتعجّب والمحاورة لا تخفى على الناظر فيه. فطبيعة القرآن هي طبيعة إعجازية، ويمكن أن نستنبط منه معرفة حوارية لها قواعدها وشروطها وأخلاقها. إنّ الطبيعة الحواريّة للثقافة الإسلاميّة لا تقتصر فقط على مجادلة الآخرين، ومناظرتهم، بل إنّها مغروسة في إنتاج هذه المعرفة وعلومها، فكلّ المعرفة الإسلاميّة لم تنتج بمعزل عن المناظرة والمُحاججة والتحاور، بل نشأت ضمن أفق مناظرات وفضاء تحاور بين منتجي العلم على شتّى المستويات، من فقهٍ وكلام ولغة. وبعد هذه الأرضية النظرية، نرى أن التحديات الكونية التي تواجهنا جميعاً اليوم، وتواجه كافة الحضارات والثقافات والهويات، تتطلب أكثر من أي وقت مضى الاشتغال الجماعي على التفكير المشترك فيما يجمع هذه الثقافات والهويات، على رغم أن أسباب الخلافات والصراعات اليوم أكبر، بل تتم تغذيتها بشكل يومي من خلال الحروب والنزاعات الاستراتيجية والسياسية في العديد من بقاع العالم. ولكن من مهام أهل الحكمة في هذا العالم الاشتغال على ما يجمعنا وليس ما يُفرقنا. وهذه بعض الأسس أو القيم المشتركة التي ينبغي أن ينخرط أهل الحكمة في الدفاع عنها أمام خطاب الصدام والصراع والفتن الذي تروجه العديد من الأقلام والأسماء والمشاريع: الاشتغال على احترام الأخوة الإنسانية. التعظيم من قدسية حياة الإنسان وممتلكاته وخصوصياته. التعظيم من سلامة البيئة وعدم إفسادها. نشر قيم التعارف والتفاهم والتعاون والتنافس في عِمارة الأرض.