ذات مرة رسم الفنان الهولندي «هيرونيموس بوش» المعروف بلوحاته المخيفة غرفة تعذيب تتغذى فيها الوحوش المتحولة على اللحم البشري! كما استلهم الرسام الإيطالي الشهير «دانتي» النار، والثلج، وشيطاناً بثلاثة أوجه في إحدى لوحاته. ولكن لو كان أي من الرجلين قد عاش في نيويورك اليوم، لكان قد أدرك أن الجحيم هو مترو الأنفاق في المدينة، ساعة الذروة، بشكل عام، أومحطة «بنسلفانيا» في أي وقت تقريباً، بشكل خاص. فأسوأ ما يمكن أن يصاب به إنسان من كوابيس، هو أن يقذفه المترو هناك، ليجد نفسه في متاهة مكتظة يتلاشى فيها أي مظهر للجمال، والتمدن، كما تتلاشى فيها أيضاً أحلام الالتزام بالمواعيد المنتظمة. وهذه المحطة هي الموقع الذي جرى تحديده، لما يتوقع أن يكون «صيف الجحيم» الذي سيبدأ كما هو مقرر، في العاشر من شهر يوليو الجاري، عندما يجري إغلاق عدة مسارات للإصلاح والصيانة، ويعجز خط «ترانزيت نيوجيرسي»، وخط «أمتراك» حتى عن الاحتفاظ بمستواهما الحالي شديد البؤس. وأنا الآن بصدد فقدان إيماني بنيويورك، ومعه فقدان ما تبقى لي من صبر. ففي الأسبوع الماضي، رأينا نموذجاً حياً للحالة البائسة التي أصبحت عليها البنية التحتية المتهالكة للمدينة، وهو ما يهدد بأوخم العواقب، وذلك عندما خرجت عربتان من عربات قطار في منهاتن العليا عن القضبان، ما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص تقريباً. وعقب الحادث أعلن «أندرو كومو»، حاكم ولاية نيويورك، حالة الطوارئ في نظام مترو الأنفاق، وتعهد بتخصيص مليار دولار لتحسين النظام وتطويره، وطلب من المختصين إعداد خطة عمل مفصلة. ولديّ هنا سؤال واحد: ما الذي جعل «كومو» يتأخر كل هذا الوقت، في اتخاذ هذا القرار؟ وفي الحقيقة أن التدهور في نيويورك لا يقتصر على نظام مترو الأنفاق فحسب، ففي معظم الأيام، وبأشكال مختلفة، أرى علامات على مدينة باتت معرضة لهجمات من الذعر الجماعي. لقد باتت المدينة تعاني حالة من الزحام الشديد، والاكتظاظ الخانق، والصخب الذي لا يحتمل، وهو ما يدعو كثيرين من سكانها إلى وضع سماعات ضخمة على آذانهم، لتحجب عن أسماعهم الأصوات المرتفعة المزعجة. إنني أتفق مع من يقولون إنه ليس هناك أحد يجبرنا على أن نعيش هنا، كما أتفق أيضاً مع من يقولون إن نيويورك ليست هي كل أميركا، وإنما هي حالة خاصة. ولكن هل الأمر كذلك بالفعل؟ في الوقت الراهن تخطر لي نيويورك التي يسمونها «التفاحة الكبيرة»، والتي أسميها أنا «الفوضى الكبيرة»، كنموذج لما يحدث في عموم البلاد، وكرواية تحذيرية لسوء المآل الذي قادنا إليه رفضنا التصدي لتحديات البنية التحتية غير الكافية، والمتهالكة. أنا أعرف أن «كومو» قد بدأ أخيراً في تحديث مطار «لاجارديا»، ولكن ذلك لن يقلل من قدر العذاب، الذي يعانيه المواطن للانتقال من مطار كنيدي إلى مانهاتن، وهو ما قد يستلزم القيام برحلة شاقة يمكن أن تستغرق وقتاً يفوق الوقت الذي استغرقته رحلة الطيران التي جاءت به إلى المدينة. أعرف أن هناك أعمالاً قد أنجزت، مثل افتتاح امتداد لخط مترو «الجادة الثانية»، الذي لن يفيد كثيراً في تخفيف الاختناق في أجزاء أخرى من النظام. وفي وقت ما، قريب، سيتوقف خط المترو الواصل بين بروكلين ومانهاتن لمدة 15 شهراً لإجراء إصلاحات. وإذا نظرنا إلى خط أفق منطقة وسط حي بروكلين، وحي«لونج أيلاند» فسنجد أن هناك أعداداً متزايدة من المباني، ترتفع فيها لتوفير المزيد من المساكن للمزيد من الناس، الذين لن يستطيع نظام مترو الأنفاق في المدينة استيعابهم بأي حال من الأحوال. والحال أن النيويوركيين الأقل ثراء باتوا لا يستطيعون توفير نفقات السكن في المدينة، وتجري بالتالي إزاحتهم خارج مركزها. أما النيويوركيون الأكثر ثراء فيجدون أنفسهم ينفقون أموالاً ببذخ على بضائع وخدمات ارتفعت أسعارها إلى مستويات يصعب تصديقها. فقد وصلت الأسعار في المطاعم والمحال -حتى الأرخص سعراً من بينها- إلى مستويات باهظة، لم يعد معظم سكان نيويورك قادرين على تحملها. وفي الوقت الذي يئن فيه نظام مترو الأنفاق، ويترنح، وينهار، نرى عدد السيارات الكبيرة السوداء ذات النوافذ الملونة يتضاعف. وهذه السيارات تمثل فحسب نماذج للمدى الذي وصلت إليه الفضاءات المصغرة للامتيازات التي ينعم بها البعض ويحرم منها آخرون، في بلد يعاني في الأصل من تفاوتات فادحة في توزيع الثروات. ونيويورك تجسد كل ذلك وأكثر، وتعتبر نموذجاً يتجسد فيه نهج إلقاء اللوم على الآخرين، والتسويف في اتخاذ القرار، الذي يعكس ما نعاني منه من خلل وظيفي على المستوى الوطني. وعمدة المدينة «بيل دي بلاسيو» وحكام الولاية «كومو» يتنازعان بشراسة حول من هو المسؤول عن كابوس المواصلات، ولكن الحقيقة أن اللوم لا يقع عليهما وحدهما، وإنما على سلسلة طويلة من السياسيين الذين يميلون للحصول على نتائج سريعة، يستطيعون التشدق بتحقيقها، وتجنب القرارات المؤلمة التي كان يمكن أن تنقذنا من الوضع الكارثي لنظام المواصلات في المدينة. لقد ظل قادتنا، وظللنا نحن أيضاً نتنحنح، ونتكاسل عن بذل الجهد، ونتنازع فيما بيننا، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من عجز وسخط. وأنا أعني نيويورك بكلامي هذا.. كما أعني أميركا أيضاً. فرانك بروني كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»