في عام 1990 كنت في مواجهة عسيرة حين خرجت أتمشى مع زوجتي. وقفت سيارة لاندروفر وهبط منها رجلان بسحنات مكشرة، ولحى غير مشذبة، وملابس قصيرة. كنا نحن الكفرة في أعينهما، لا سيما زوجتي التي كشفت عن وجهها. مرت المواجهة بسلام، حين اعتبرونا من الأجانب الفسقة الذين يحتاجون إلى ضرب من التهذيب. لم تكن تلك المواجهة إلا رأس جبل الجليد، في قائمة مطالب تطوق المرأة، خلاصتها أن ليس ثمة خرجة من بيتها إلا إلى القبر. وفي المسجد أشار إلى أحدهم بأصبعه أن تعالَ! لم أفهمه! كان في الأغلب يعتبرني من الجهلة الفسقة المفسدين لنظام المسجد، ويجب تعليمي كيف أسجد بشكل صحيح. وباعتباري طبيباً جراحاً وجدنا صعوبة في التعامل مع مريضة تشكو من دوالي الساقين، ويتعين على الطبيب رؤية، وكذلك حال فتاة تواجه انفجار الزائدة الدودية، وليس من مؤشر لمعرفة حدة الحالة إلا بفحص البطن. وحين وضعت «طالبان» يدها على تماثيل بوذا، نسفتها بالديناميت، لكنها لم تفكر بحداثة الديناميت، بقدر استخدامها التعسُّفي للنص القرآني حول قصة إبراهيم الذي هدم الأصنام، ولم تلاحظ أن إبراهيم حطم الأصنام إلا كبيرها لعلها ترجع إليه، في تحريض للمخيلة على أنها تماثيل لا تضر ولا تنفع، وكان بإمكانهم تحويل المكان إلى مقصد سياحي يعود بالمال الوفير على دولة خاوية الوفاض إلا من تجارة القنب والحشيش، لكن بينهم وبين الفهم سور له باب باطنه فيه الرحمة ومن قبله العذاب. ومن أعاجيب ما كتب ابن خلدون في مقدمته أن هارون الرشيد والمأمون حاولا هدم إيوان كسرى والأهرام فعجزا، وحسب المؤرخ «توينبي» فإن احتكاك الحضارة بالبداوة قد يفضي لصالح «التوحش البدوي»، ووفقاً لعالم الاجتماع العراقي علي الوردي، فإن الدكتاتورية في العالم العربي هي من نتائج «ترّيف» المدينة، ونقل عقلية الريف (خاصة الثأر والدم والتعصب والفحولة ودونية المرأة.. إلخ)، مما أضر بالمدن العريقة، مثل بغداد ودمشق والقاهرة. ما أريد أن أخلص إليه من كلامي الموجز هو أن أموراً خطيرة تحدث في المنطقة، وأنه لا بد لها من دخول معراج الحداثة، وعلينا أن نقول قولاً لا يوقظ نائماً ولا يزعج مستيقظاً، ولعل الفرصة قد جاءت ليحصل التحول في المنطقة نحو الحداثة، كما حصل في روسيا على يد كاترين العظيمة، حيث انتقلت بلاد القياصرة من الإقطاع الروسي إلى الحداثة الأوروبية، بما في ذلك تغيير نظام التعليم، وإعفاء الشرطة الدينية من مهامها، وإفساح المجال أمام المرأة لاقتحام المجتمع، واعتماد معايير العمل والكفاءة. مع اندلاع الأحداث في سوريا كتبت رسالة إلى الأسد بعنوان «اقرع باب التاريخ»، متتبعاً مسيرة «آشوكا» الهندي في القرن الثالث قبل الميلاد، الذي انقلب من الحالة الدموية إلى الإنسانية، لكن من دون فائدة، كما حصل مع فرعون وهو في غرغرة الموت وقد أخذ يطلب السماح ويعلن الإيمان، في سنّة مكررة عبر التاريخ. وحالياً، وبعين النصح أقول: إنها لحظة تاريخية لاتخاذ خطوات جريئة لتغيير مسار المنطقة، وإلا فأمم كثيرة انقرضت، وحضارات غيبت، ودول تفككت.. ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه.