كان «فريد روتوندارو».. الزعيم الأميركي من أصل إيطالي الذي توفي يوم 26 يونيو المنصرم (2017)، رجلاً متميزاً بكل المقاييس والاعتبارات. وخلال جلسة استماع تناولت سيرته، قال أخي جون: «لقد كان فريد رجلاً أنيقاً ووسيماً، لا ينسى أبداً الأصول التي انحدر منها». وأنا أضيف إلى ما قاله «جون»، أنني كنت محظوظاً لأنني تمكنت من عقد صداقة معه لمدة تقارب الأربعين عاماً، كان خلالها بمثابة ناصحي ومعلّمي. وفي سنوات عقدي السبعينيات والثمانينيات، عندما رفض كثير من المسؤولين في واشنطن التعامل مع الأميركيين ذوي الأصول العربية، ضمّني «فريد» تحت جناحيه. وكان يعلّمني طرق مواجهة الشرور التي تنطوي عليها السياسات العنصرية آنذاك، ومهّد أمامي المدخل الآمن إلى المعترك السياسي الذي ما كنت لأبلغه من دون مساعدته. وعندما أتيت إلى واشنطن للمرة الأولى في أواخر عقد السبعينيات، أطلقتُ حملة لدعم الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني، وهو نشاط كان يرى البعض من الأميركيين أنه يندرج في إطار العمل المحظور. وأذكر أنني قد دُعيت لاجتماع للقادة السياسيين من مختلف الأعراق في البيت الأبيض بحضور «والتر مونديل» الذي كان نائباً للرئيس جيمي كارتر، وبعد ثلاثة أيام من انعقاد الاجتماع، تم استدعائي إلى البيت الأبيض، وقالت لي موظفة فيه: «أنا آسفة لأنه لن يكون في وسعنا دعوتك مرة ثانية إلى هنا، لأننا نواجه معارضة قوية لدعوة مؤيدي العرب الفلسطينيين لهذه الاجتماعات». وكانت هذه المسؤولة إنسانة طيّبة إلى أبعد الحدود، وما لبثت أن أصبحت صديقتي المقرّبة، وكانت أيضاً صديقة صديقي «فريد» ومرتبطة وظيفياً بـ«المركز الوطني للعلاقات الاثنية الحضريّة» NCUEA الذي يشرف عليه. وعندما سمع «فريد» بما حدث، شعر بالانزعاج من الطريقة التي عوملت بها وصمّم على إدراج اسمي في قوائم المدعوين إلى كل الاجتماعات والمؤتمرات، والأهم من ذلك دعوتي لحضور حفلات الغداء التي كانت تضم كبار الكتّاب والنشطاء والسياسيين. وفي تلك المرحلة، عندما كان يعمل على تأسيس ائتلاف متعدد الإثنيات، تلقيت دعوة منه للمشاركة فيه كممثل عن مجتمع الأميركيين ذوي الأصول العربية. ونظم الائتلاف اجتماعاً خاصاً ناقش المشاركون فيه الدور الذي يلعبه الإعلام في تغيير النمط الذي يتم بموجبه التعاطي مع القضايا الإثنية، وطلب مني «فريد» أن أترأس الجلسة باعتباري «المدير التنفيذي للجنة الأميركية العربية المناهضة للتفرقة العنصرية» AAADC. ومرة أخرى، وجدت البعض ممن يشتكون من مشاركتي، وقال أحدهم موجهاً كلامه إلى «فريد»: «لا يمكنك بأي حال أن تثق بالسيد زغبي، فهو عربي يلتزم بأجندته ولا يكترث في الواقع بمثل هذه القضايا التي نتطارحها». وسرعان ما ردّ عليه «فريد» مدافعاً عني وقال للرجل الذي انتقد حضوري: «كلا، بل هو رجل يعرف كيف يهتم بفريقه ومجتمعه ولديه الكثير مما يقدمه في هذا الاجتماع». وفي مناسبة أخرى، عندما بادر «فريد» لتنظيم مؤتمر حول الدور الذي يلعبه المهاجرون وأبناؤهم في تعريف المعنى الحقيقي لأن يكون الإنسان أميركياً، كان حريصاً على دعوتي مع بقية النشطاء من الأميركيين العرب ليكونوا جزءاً من الحوار. ويمكنني أن أقول ببساطة إن «فريد» أعطاني وأعطى المجتمع الذي أمثله دفعة قوية في وقت كان فيه الآخرون غير مهتمين بهذا النشاط بمن فيهم الأميركيون العرب. ويُعرف عن «فريد» أيضاً أنه مبتدع دعوات «الغداء السياسي»، وكان يستغلها في الترويج للسياسات العادلة، وقد أصبح العديد من مطاعم واشنطن يضم طاولات خاصة موسومة بعبارة «طاولة فريد». وكان له كرسيه الخاص على الطاولة، وكنا نبدأ الحوار بمجلس يحضره الإعلاميون والسياسيون ورؤساء وقادة منظمات المجتمع المدني والدعاة الدينيون، وكان عدد الحاضرين يصل أربعة أو خمسة في كل مرة. وكان حضور هذه الجلسات مشرفاً، وقد أكسبني خبرة عظيمة، وكنت أغتبط لكوني أحد الحاضرين على تلك الطاولات وأنا أستمع وأتابع مجريات الحوار، وكان يشرفني أن أكون جزءاً منه. وأما الشيء الذي لم أتمكن من فهم مدى أهميته واستيعاب أبعاده الحقيقية في ذلك الوقت فهو ما أوحى به إليّ «فريد» من أنني لست في الحقيقة مدعواً كشاهد على ما يدور من نقاشات، بل باعتباري أحد المشاركين الفعليين فيها. وبهذا يكون قد منحنا قوة كنا نحتاجها. ولم يكن «فريد» يدعوني إلى الجلوس من أجل إملاء الدروس عليّ فيما يتعلق بالسياسات المتبعة في التعامل مع الإثنيات، بل كان يفضل التركيز معي على الفكرة والنموذج. ومن خلال دعوته لي لمتابعة الطريقة التي يعمل بها، تعلمت منه المغزى العميق لمفهوم التراث المشترك، وكيف يمكننا أن نتعاون على دعم بعضنا بعضاً، وكيف يمكن للمجموعات الاثنية أن تتحول إلى قوة سياسية حقيقية فاعلة. --------------- * مدير المعهد العربي الأميركي – واشنطن