قررت رئاسة إقليم كردستان العراق الاستفتاء على الطلاق، في سبتمبر القادم، ولا نقول شمال العراق، لأن ذلك قد يزعج أشقاءنا أهل الشمال، بينما لا يزعج أهل الجنوب ولا الوسط ولا الغرب إذا وصفت أماكنهم بالاتجاهات، فمعلوم أن الغرفة حتى الغرفة لها اتجاهات أربعة فكيف بأرض حسبَ العالم بداية التاريخ عليها؟! لكن عذرهم، عندما يُعمم شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، على الاتجاهات كافة، فما دخل لسان الشمال به، وللأسف أصابت عدوى الشعار المذكور المقصيين به، فصار: «أمة كردية واحدة ذات رسالة خالدة»! والبعث الكردي أمسى حقيقة، حتى غدا يطلق على مَن يميل لعراقيته بـ«العراقجي»! وقد أطلقه أحدهم على المؤرخ والأكاديمي كمال مظهر أحمد، وقد سمعتها منه. إن اختيار هذا الوقت للاستفتاء طعنة نجلاء لمَن ساح دمه في الوديان والجبال، من أجل الكرد، وطعنة للوطن (العراق) الذي لم يكن يوماً محتلاً كي يُطالب بإعطاء حق تقرير المصير، الذي يُفهم أنه تحريرٌ من احتلال وهيمنة، لكن هناك مَن وسَعه، حتى صار حقاً لكل جماعة، وفي الأحوال كافة. لم يكن العراق محتلاً لقوم مِن أقوامه، إنما ولد منها جميعاً، عاش كرده وعربه وبقية أقوامه، على هذه الجغرافيا، الممتدة من آثور الموصل وأعالي الجبال إلى أسفل عبادان (المسعودي، التنبيه والإشراف). لم يزد عليه الإنجليز شبراً إنما أنقصوا من شرقه وغربه، ونحن هنا نتحدث عن الجغرافيا وهي أصدق من السياسة والتاريخ. يجهل في أمر العراق مَن اعتبره تشكيلاً مِن ثلاث ولايات لُصقت بالصمغ الإنجليزي: بغداد والموصل والبصرة، إنما هذا تقسيم إداري مؤقت لأمن إمبراطورية مترامية الأطراف، فكان والي بغداد يُسمى وزير العراق، وفي أحوال يُسمى العراق ببغداد (تقرير إلى الفاتيكان 1742). قسمه مدحت باشا (قُتل 1883) إدارياً إلى عشرة سناجق، أي ألوية أو محافظات، وضمنها السُّليمانية وشهرزور (كركوك) ويتبعه قضاء أربيل، كان ذلك في عام 1869، ونُشر هذا في العدد الأول من جريدة «الزوراء»، بل الأجهل مَن ذهب بعيداً وراء كتابات الغربيين الذي شككوا بوجود العراق اسماً وكياناً، واكتشف أحدهم المكشوف بأن العراق قبل عام 1918 لم يكن دولة. أقول: هل كانت مصر أو بلغاريا تحت الإمبراطورية العثمانية دولتين؟! يأتي قرار الاستفتاء بنتيجة محسومة، وفق التجييش القومي، وتقديم العراق محتلاً، وكأن بقية العراقيين لم يعانوا من دكتاتورية الأمس وفساد اليوم! وكأن الكُرد لم يساهموا في بناء هذه الدولة، فمن كان وجهاء العراق: جعفر العسكري (قُتل 1936)، وقاتله بكر صدقي (قُتل 1937)، وسعيد قزاز (أعدم 1959)، وأحمد مختار بابان (ت 1976).. وغيرهم الكثير من قادة وبُناة العراق الحديث، أليسوا كُرداً؟! كأن ليس هناك قبائل كردية ساهمت في توطيد الدكتاتورية ببغداد، ينعتهم الكُرد بالجحوش، ويصفهم النظام بالفرسان، ألم تنقذ الدكتاتورية ببغداد أربيل بعد أن مالت السليمانية لطهران، في حربهما الشعواء (1996)؟! يأتي «أيلول» (سبتمبر) خاطئ آخر، فـ«أيلول» الثورة (1961) لم يكن صائباً، فقد فسح لانقلابات دموية، ولسنا نحن نقول بخطئه إنما القادة الكُرد أنفسهم قالوا ذلك، وها هو «أيلول» آخر سيأتي على البقية الباقية للعراق وكرده. ما بين العراق وكرده ليس عداوة مستمرة، والعراقيون لم يخنعوا لتعصب قومي، فعزيز محمد (ت 2017) قاد الحزب الشيوعي العراقي لأكثر مِن ثلاثين عاماً، ولم يُعرف إلا عراقياً، إلا في حمأة التعصب، انقلب بعد وفاته كردياً فقط. لم يَذكر أَشقاؤنا الكُرد، من العراق، سوى الحروب والاضطهاد، والعراق كافة كان مبتلى بهما، وكأن بغداد لم تكن داراً للكُرد كمواطنين وسُلطة. لهذا كنَّا نأمل منهم تعديل ميزان السياسة، بعد عام 2003، لكنهم انداحوا مع الفوضى، وغلبتهم المصلحة الفئوية، فعندما يُسن قانون مدمر لا يعترضون عليه، إذا كان دماره يسري على بقية العراق دون منطقتهم. في شأن الطلاق والتخلي عن العراق يذكر ابن كثير الدمشقي (ت 774هـ) عمَن سبقوه: «توجه المتوكل على الله من العراق قاصداً مدينة دمشق، ليجعلها له دار إقامة ومحلة إمامته.. وتأسف أهل العراق على ذلك، فقال في ذلك يزيد بن محمد المهلبي: أظنُ الشَّام تشمتُ بالعراقِ/ إِذا عزمَ الإِمامُ على انطلاقِ/ فإن تدعَ العراقَ وساكنيها/ فقد تُبلى المَليحةُ بالطَّلاقِ» (البداية والنهاية). نبارك لأشقائنا الكرد أبغض الحلال، إذا كان يريحهم، لكن ما نخشاه، عليهم وعلينا، الشماتة. نخشى عليهم وعلينا من طلاق سيكون مستهلاً لحروب، وتفريط بمكتسبات نالوها، وآمال نرجو ألا تكون مخيبة لنا جميعاً، وعندها ستندم المليحة على طلاقٍ اختارته. أقول: ماذا يصنع الجواهري (ت 1997) بطاقية رأسه، وقد حملها إجلالاً لشراكة قرون من الزمن، وهو القائل: «أنا العراق لساني قلبه ودمي/ فراته وكياني منه أشطار»؟!