يمكن للإنسان في الغرب أن يعبّر عن رأيه السياسي مهما كان صادماً، ويمكنه أن يصرخ بإنكار وجود الله، أو أن يفترش الطريق ويدعو لأي دين، وأن يزعم أنه مبعوث السماء، ويمكنه أن يهجر والديه، وأن يوصي بتركته لقطته السمينة، ويمكنه أن يحتجّ في الشارع، وأن يغيّر جنسه، وإذا فشل في الانتحار سيعود إلى بيته معززاً مكرماً، وإذا كان يعاني مرضاً مستعصياً، يمكنه أن يطلب من الطبيب إرساله إلى المقبرة. كل الذي على المرء فعله في الغرب ليكون مواطناً صالحاً في دولته، وشخصاً مقبولا في مجتمعه، هو أن يتحلى ببعض آداب اللباقة، وأن يلتزم حدود القانون، وهذه الحدود قياساً إلى أجزاء أخرى من العالم قليلة، بل حتى لو تجاوز حدود القانون، فالعقوبة التي يواجهها غالباً أخف من عقوبة الجريمة نفسها في أماكن أخرى من العالم، كما في عقوبة الإعدام التي ألغيت في أوروبا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وفي عدد من الولايات في أميركا. لم يبلغ الغرب هذا المستوى من الحرية إلا بعد قرون من الصراع بالأفكار والأسلحة، وفي سبيل صون هذه الحرية، تغاضى الغرب عن أمور غير مقبولة في أنحاء أخرى من العالم، لا يحلم الناس فيها بذلك المستوى من الحرية، ومن تلك الأمور غير المقبولة هو «التسامح» مع التطرف في أوساط الجاليات الإسلامية، و«التساهل» مع قيادات وجماعات التطرف، حتى ظهر من بينهم إرهابيون مارسوا القتل في دولهم، أو التحقوا بالتنظيمات الإجرامية في الشرق الأوسط. ولم يكن مقصود الغرب من «التسامح» و«التساهل» صنع إرهابيين، على الأقل لم يتوقعوا أن تكون النتيجة قتل الناس في شوارعهم بدوافع دينية، وتفجير القنابل في مدنهم طمعاً في الجنة، وإنما المقصود كان في حال أحسنا الظنّ هو عدم المسّ بالحرية، درة تاج الحضارة الغربية الحديثة. وبمناسبة الإرهاب الذي ضرب قبل يومين مدينة مانشستر، حيث قام شخص بتنفيذ هجوم انتحاري عند نهاية حفل غنائي في أحد المسارح، فأوقع 22 قتيلاً و59 جريحاً، سنجد أن الانتحاري الذي يدعى سلمان العبيدي، وُلد في مانشستر سنة 1994، لأبوين ليبيين كانا قد فرّا من ليبيا بسبب معارضتهما نظام القذافي، ودرس في مدرسة في مانشستر، والتحق بجامعة في مانشستر، وكان يصلي في مساجد مانشستر، ويدخن الحشيش في مانشستر، وأنه طوال حياته التي استمرت 22 سنة، لم يبرح مانشستر إلا قليلاً. ابن مانشستر لا يختلف حاله عن حال ثلاثة من أبناء باريس، ولدوا فيها، ونشؤوا فيها، وتعلموا في مدارسها، كل من سعيد كواشي، وشريف كواشي، وأميدي كوليبالي، الذين اقتحموا سنة 2015 مبنى صحيفة «شارلي ايبدو» وقتلوا وأصابوا بالأسلحة الرشاشة 23 شخصاً. وهم جميعاً لا يختلفون عن عمر متين، الذي ولد في أميركا، ونشأ فيها، وتعلم في مدارسها، ثم اقتحم سنة 2016 ناديا ليليا في أورلاندو، وقتل وأصاب في إطلاق نار 103 أشخاص. وإذا كان يمكن القول إن ما يجمع بين هؤلاء هو جذورهم الإسلامية، فيمكن القول أيضاً إن ما يجمع بينهم أنهم صُنعوا في الغرب. -------------------------- *كاتب إماراتي