جاءت التشكيلة الحكومية الأولى في ولاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمعلنة يوم الأربعاء الماضي، متوافقة مع ميوله الليبرالية وانفتاحه على الاتحاد الأوروبي، وذلك بإسهام من رئيس الوزراء الجديد إدوارد فيليب الذي عينه ماكرون الأربعاء الماضي بعد يوم واحد على استلامه مهامه كرئيس للجمهورية. فأكثر قضية تشغل بال ماكرون عقب فوزه بانتخابات الإليزيه، هي افتقاره للظهير البرلماني المساند والمؤيد للحكومة، فحزبه «الجمهورية إلى الأمام» لم يكمل العام الأول من عمره، والبرلمان خاضع للحزبين التقليديين «الاشتراكي» و«الجمهوريون». لذلك قام ماكرون، القادم من الحزب الاشتراكي، بتعيين فيليب، المنتمي لحزب «الجمهوريين» (وسط اليمين)، رئيساً للوزراء، بغية توسيع قاعدته السياسية وبهدف إضعاف خصومه قبل الانتخابات التشريعية في يونيو المقبل، لكن من هو إدوارد فيليب؟ وهل بإمكانه تغيير المعادلة السياسية الفرنسية التقليدية، كما يريد ماكرون؟ إدوارد فيليب موظف سامي ورجل دولة فرنسي، كان عضواً في حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، ثم في وريثه «الجمهوريون»، كما كان عمدة ونائباً برلمانياً، لكن لم يسبق له أن شغل أي منصب وزاري. ولد إدوارد فيليب عام 1970 في «روان»، العاصمة التاريخية للنورماندي في شمال غرب فرنسا، وكان والداه مدرسين للغة الفرنسية، وقد عمل والده مديراً للمدرسة الفرنسية بون بألمانيا، وهناك حصل إدوارد على شهادة البكالوريا، ليلتحق بمعهد الدراسات السياسية في باريس ويتخرج منه عام 1992، كما التحق بالمدرسة الوطنية للإدارة وتخرج منها عام 1997. وفي العام ذاته أصبح مستشاراً قانونياً في مجلس الدولة. مارس إدوارد فيليب أول نشاط سياسي في حياته حين كان طالباً في معهد العلوم السياسية، وقد انضم حينئذٍ لحملة الحزب الاشتراكي لدعم ميشال روكار، وأمضى عامين في عضوية الحزب، قبل أن يتركه ملتحقاً باليمين. وكشأن كثير من الساسة الفرنسيين الآخرين، بدأ إدوارد حياته السياسية من الأقاليم والدوائر المحلية، فقد انضم في عام 2001 إلى فريق بلدية لوهافر في النورماندي، مستشاراً قانونياً لعمدتها أنطوان روفيناشت، ثم أراد الترشح للانتخابات التشريعية لعام 2002 من الدائرة الثامنة في مقاطعة «سين ماريتيم» بالنورماندي، دون أن يحالفه الحظ بالحصول على ترشيح حزبه. وفي ذلك العام، دعاه آلين جوبيه للمشاركة في تأسيس «حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية»، كإطار لتحالف سائر قوى اليمين والوسط في حركة كبيرة واحدة. وتولى إدارة الخدمات في الحزب الجديد حتى استقالة جوبيه في عام 2004، لينضم في العام ذاته إلى مكتب «ديبفواز وبليمبتون للمحاماة»، ومن بعده التحق، في يونيو 2007، بمكتب جوبيه الذي أصبح وزيراً للبيئة والتخطيط المستدام في حكومة فرانسوا فيون أثناء رئاسة ساركوزي. وفي العام ذاته أصبح خلفاً للنائب البرلماني جان يفيس بيسيلات عن الدائرة السابعة في «سين ماريتيم». وفي العام التالي ترك مكتب جوبيه وانضم إلى مجموعة «أريفا» العاملة في مجال الطاقة النووية، كمدير للشؤون العامة فيها. وانتُخب إدوارد فيليب، في عام 2008، نائباً لعمدة لوهافر مكلفاً بقضايا التنمية الاقتصادية والتوظيف والتدريب والتعليم العالي والعلاقات الدولية، لكن عمدة لوهافر، أنطوان روفيناشت، استقال من منصبه في أكتوبر 2010، فتم انتخاب فيليب محله، فقام بإخلاء المقاصف المدرسية من آلاف قطع الشوكولاته المحتوية على جيلاتين الخنازير. وأصبح فيليب نائباً في البرلمان عقب وفاة بيسيلان في مارس 2012، لكنه لم يمارس العمل التشريعي بسبب تعليق الجمعية الوطنية عملها خلال حملة الانتخابات الرئاسية، بيد أنه ترشح وفاز في الانتخابات التشريعية التالية المنظمة في صيف العام ذاته. كما تزعم، في مارس 2014، قائمة للانتخابات البلدية، وفاز في الجولة الأولى بنسبة 52.04% من الأصوات، فأعيد انتخابه من قبل مجلس المدينة الجديد. ثم ظهر في عام 2016 كمتحدث باسم آلين جوبيه خلال الانتخابات التمهيدية داخل حزب «الجمهوريين» لتسمية مرشح لانتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2017. وعقب هزيمة جوبيه في الانتخابات التمهيدية، انضم إدوارد فيليب لحملة المتسابق الفائز بترشيح «الجمهوريين» فرانسوا فيون، وظل يوجه انتقادات مريرة لماكرون، متهماً أداءه على رأس وزارة الاقتصاد والمالية بالفشل والإخفاق، كما قال إنه «متحدث جيد لكنه مسير سيئ»، غير أن فيليب ترك حملة فيون في مطلع مارس الماضي عقب الفضائح التي أضعفت شعبية مرشح «الجمهوريين»، ولم يلبث أن التحق بفريق حملة ماكرون. وأعلن ماكرون، في اليوم التالي لاستلامه منصبه كرئيس للجمهورية من سلفه فرانسوا أولاند، تعيين فيليب رئيساً للوزراء، وهي المرة الأولى في التاريخ السياسي المعاصر لفرنسا التي يعين فيها رئيس الجمهورية رئيساً للوزراء من خارج معسكره السياسي، دون أن تجبره على ذلك هزيمة في الانتخابات البرلمانية. وقد أعلن فيليب تشكيلة حكومته المكونة من 18 وزيراً، الأربعاء الماضي، وفيها شغل وزير الدفاع المنتهية ولايته الاشتراكي جان إيف لودريان حقيبة الخارجية، وشغلت النائبة الأوروبية سيلفي غولار حقيبة الدفاع. ومنحت حقائب وزارية أخرى لشخصيات برزت خلال حملة ماكرون، بينهم رئيس بلدية «ليون» الاشتراكي جيرار كولومب الذي عين وزيراً للداخلية، والحليف الوسطي زعيم حزب «موديم»، فرانسوا بايرو، الذي منح حقيبة العدل، بينما حظي اليميني برونو لومير بحقيبة الاقتصاد، كما تم إسناد حقيبة الانتقال البيئي للإعلامي والناشط البيئي «نيكولا هولو». وهكذا ضمت حكومة فيليب وجوهاً جديدة وجمعت أطيافاً سياسية مختلفة، على أمل أن تساعد ماكرون في تحقيق فكرته حول إعادة هندسة الحياة السياسية الفرنسية من جديد، في تجاوز لحالة الاستقطاب التقليدي بين اليمين واليسار وإيجاد طريق ثالث يمثله حزب «الجمهورية إلى الأمام»، طريق يَعِدُ فرنسا والفرنسيين بالتغلب على الأعطاب والاختلالات التي أصابت الاقتصاد والمجتمع خلال الأعوام الماضية الأخيرة. لكن البعض يشير إلى خبرة فيليب المحدودة في العمل الحكومي، وإلى بعض مواقفه مثل معارضته قانون الشفافية في الحياة العامة، الذي تم اعتماده في عام 2013 رداً على «فضيحة كاهوزاك»، وزير الميزانية الذي كشفت الصحافة امتلاكه أموالاً غير مصرح بها ضمن حساب سري في سويسرا، حيث وجد فيليب نفسه ضمن أقلية محدودة من المشرعين عارضوا إنشاء «السلطة العليا للشفافية في الحياة العامة». ويذكِّر النشطاء البيئيون الفرنسيون بالفترة التي أمضاها فيليب في مجموعة «أريفا»، قائلين إنه عمل خلالها على ضمان تعاون برلماني لصالح مشاريع القوانين غير الصديقة للبيئة، وأنه عارض قانون انتقال الطاقة إلى النمو الأخضر، وقانون استعادة التنوع البيولوجي، فضلاً عن دعمه مشروع مطار نوتردام دي لاندز، ولاستخدام محطةٍ لطاقة الفحم في لوهافر، ولم ينف إدوارد فيليب قط هذه المواقف، بل قال إنه «حين يكون الاختيار ضرورياً بين الوظائف والبيئة، دائماً ما أختار الوظائف». فهل سيستطيع فيليب، بهذه المواقف وتلك الخبرة، توسيع القاعدة السياسية لماكرون وإضعاف خصومه في وجه الانتخابات التشريعية القادمة القريبة، أو بعبارة أخرى شق طريق ثالث في فرنسا؟ محمد ولد المنى