مع اقتراب موعد مشاركة الرئيس دونالد ترامب في أول اجتماع له مع زعماء الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو» وقمة مجموعة الدول السبع، وصل وزير الخارجية الألماني سيجمار جابرييل إلى واشنطن حاملاً رسالة مضمونها أنه: إذا كان شعار «أميركا أولاً» يمكن أن يعني أي شيء، فهو أن أمن أوروبا يجب أن يحظى بذروة الاهتمام في الأجندة السياسية الأميركية. وخلال حديث صحفي أدلى به بمناسبة الذكرى السبعين لإطلاق «مشروع مارشال»، وهو مبادرة أميركية لتأمين الدعم الاقتصادي لأوروبا الغربية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ذكّر جابرييل مستمعيه الحاضرين والمتابعين من البيت الأبيض بأن برنامج المساعدات، ذلك الذي بلغت قيمته بضعة مليارات من الدولارات، لم يكن يمثل بحد ذاته مجرد الرغبة في مساعدة الآخرين، بل إن الأهم في الأمر، كما يقول جابرييل، هو أن أوروبا المتماسكة والحرة كانت تمثل أولوية استراتيجية أميركية منذ توقيع «ميثاق الأطلسي» في عام 1941. لأن قوة وأمن ورخاء أوروبا تصب كلها في مصلحة الولايات المتحدة، وهي جزء من السياسة التي جعلت الولايات المتحدة أيضاً دولة قوية وآمنة وذات اقتصاد متين خلال العقود السبعة الماضية. وقد استبق جابرييل بعض الأقاويل المثيرة للجدل، ومنها أن التحالف الأميركي الأوروبي أصبح برأي البعض في واشنطن شيئاً من الماضي، مذكراً بأن تحديات القرن الحادي والعشرين تختلف بالتأكيد عن تحديات القرن العشرين، ولكن التحديات لا تزال قائمة على أية حال. وقال إن مصير نظام العالم الحر صار موضعاً للتساؤل يوماً بعد يوم، ولا يمكن إعادة وضع معاييره الجديدة إلا بتحقيق المزيد من التقارب الأميركي- الأوروبي، من أجل مواجهة الأخطار الكبرى، والوقوف في وجه المشاريع الاستفزازية مثل المشروع الصيني العملاق «حزام واحد، طريق واحد» الذي يهدف إلى السيطرة على الأصول والبنى التحتية واقتصادات عدد كبير من دول «أوراسيا» أو أوروبا الآسيوية. وحاول جابرييل التمهيد لإطلاق محادثات تجارية بين أوروبا والولايات المتحدة. وقال إن أوروبا هي السوق العالمية الأكثر ضخامة، وإن الولايات المتحدة هي ثاني أضخم سوق في العالم. وأضاف: «ولو وضعنا اليد في اليد، فسنتمكن من إرساء أسس ومعايير جديدة ليس في التجارة الحرة فحسب، بل في نواميس التجارة العادلة أيضاً. وإذا لم نفعل ذلك، فستكون الصين هي السبّاقة لوضع تلك الأسس والمعايير موضع التطبيق وفقاً لرؤاها ومصالحها الخاصة». وقال جابرييل إن على أوروبا أن تبذل مجهوداً أكبر من أجل ضمان أمنها بذاتها، ولكنه ذكّر مستمعيه أيضاً بأن الدول الأوربية تؤدي بالفعل الواجب المفروض عليها في هذا الإطار، ليس لأن واشنطن طلبت منها ذلك، بل لأنها أدركت من تلقاء نفسها تلك الضرورة، ولمست تلك الحاجة. ولم ينسَ جابرييل أن يدلي بدلوه في معارضة الفكرة التي عارضها من قبله بقية زعماء أوروبا، والتي تقضي بأن على كل الدول الأعضاء في حلف «الناتو» أن تنفق 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على المشاريع الدفاعية. وعلينا أن ننتبه إلى وجود طرق أخرى لتعزيز السياسة الأمنية وتطويرها، ومن ذلك مثلاً، زيادة الإنفاق الدفاعي على القوى الدفاعية الأوروبية ذاتها. وتُبطن تصريحات جابرييل في طياتها طلقة تحذير، أو ربما وعيداً بأن ألمانيا ومعها أوروبا لن تكون مقودة في كل شيء بأطروحات واشنطن، ثم إن هذا الحديث يأتي بعد يوم واحد من صدور تصريح عن مسؤول كبير في البيت الأبيض قال فيه لرجال الصحافة والإعلام: «لقد قرر الرئيس البقاء في الناتو، إلا أن هذا لن يحدث ما لم يحقق الحلف تطوراً كبيراً وبسرعة أكبر. وإما أن نتمكن من رؤية تغيرات حقيقية وملموسة في الموقف من الناتو، أو نحاول تشكيل الأمور بطريقة أخرى». وجاء هذا التصريح على لسان الناقد الأكبر لـ«الناتو» ستيفن ميلر مستشار ترامب في الشؤون المتعلقة بالحلف. ورغم علم جابرييل المسبق بما يمكن أن تثيره تصريحاته من جدل على المستوى المحلي، لم يتردد في التعبير عن الحقيقة التي يؤمن بها، أن أميركا تبقى هي «الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها»، وهي تلعب دوراً في النظام العالمي لا يمكنها أن تلعبه أبداً لو أنها قررت الانكفاء على نفسها. وقال جابرييل: «نحن لسنا القضاة» الذين يحاكمون الولايات المتحدة على سياساتها الداخلية، ولكننا نحتاج إلى إدارة أميركية مستقرة ومنشغلة بمشاكل العالم، وأما لو بالغت الولايات المتحدة في الانشغال بمشاكلها الداخلية، فسيؤدي ذلك إلى حدوث فراغ في الكيان السياسي العالمي، وهو الفراغ الذي ينتظر بعض الأشقياء التسلل عبره. إيميلي تامكين: كاتبة أميركية في العلاقات الخارجية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»