انتخب الكوريون الجنوبيون مؤخراً المحامي والمشرع «مون جاي إن» رئيساً جديداً لهم في واحدة من أكثر الانتخابات الرئاسية سهولة في تاريخهم المعاصر. فالظروف الداخلية كانت مهيأة تماماً لفوزه على خلفية عزل سلفه «بارك جيون هي» بتهمة الفساد ذات الحساسية البالغة في المجتمع الكوري الجنوبي. هذا ناهيك عن تعهده خلال حملاته الانتخابية كمرشح للحزب «الديمقراطي» بإيجاد حلول سريعة لقضايا تلامس وجدان الناخبين مثل غلاء المعيشة ومعدلات البطالة والنمو الاقتصادي المتراجع، إضافة إلى معضلة العلاقة المتوترة مع الشطر الشمالي. هذه العلاقة التي يرغب الرئيس الجديد في معالجتها بالانفتاح على نظام بيونج يانج بعيداً عن تأثيرات واشنطن وضغوطها، خصوصاً وأن جذور «مون جاي - إن» توجد هناك في الشمال لكونه ابناً لعائلة فقيرة فرت من الشطر الشمالي إلى الشطر الجنوبي خلال الحرب الكورية في الخمسينات. لكن يبقى السؤال: هل يستطيع الرئيس الجديد تحقيق وعوده؟ بل هل يتمكن من إتمام عهده والخروج من البيت الأزرق دون فضائح تلاحقه من تلك التي لاحقت كل أسلافه دون استثناء؟ اقتصادياً ليس من المتوقع أن تحقق كوريا الجنوبية في عهده رخاء أو نمواً كذلك الذي تحقق في عهد والد سلفه الجنرال «بارك تشونج هي»، لأن ظروف الأمس الداخلية والخارجية مختلفة تماماً عن ظروف اليوم. أما على صعيد ما وعد به من تحجيم دور الشركات الكورية العائلية الكبرى المعروفة بـ «تشايبولChaebol» للحيلولة دون انخراطها في الفساد والإفساد، فمن الخطأ الاعتقاد بأنه يملك عصا سحرية، لأن تلك الشركات هي عماد النهضة الصناعية في كوريا الجنوبية، وأي مساس بها ستكون له انعكاسات سلبية على دور البلاد الاقتصادي والتجاري والاستثماري، ناهيك عن أن هذه الشركات بنت لنفسها في المجتمع خلال العقود الأربع الماضية من النفوذ والسطوة مالاً يمكن الاقتراب منه. وعلى المنوال نفسه يخطئ الرئيس الجديد إنْ أعتقد أن الحوار مع بيونج يانج سيأتي بالنتائج المرجوة، ويحرر شعبه من شبح الحرب. فلقد جرب الرئيس الأسبق «كيم داي جونج» الانفتاح على الشمال بنوايا صادقة، مقدماً للأخير حزمة من الإغراءات ضمن ما عرف بـ «سياسة الشمس المشرقة» التي تبناها وعبّر من أجلها الحدود إلى بيونج يانج في عام 2000، فلم تقابل مبادرته الشجاعة هذه إلا بالمزيد من التصلب والمراوغة والرعونة، بل أن «كيم داي جونج» دفع ثمناً لتلك المبادرة غير المسبوقة حينما اتهم بتقديم رشوة مالية لنظيره الشمالي «كيم جونج إيل» من أجل توجيه دعوة له لزيارة بيونج يانج، فكانت النتيجة أن أنهى الرجل عهده الرئاسي بفضيحة مدوية، هو الذي نال جائزة نوبل للسلام وصُنف ضمن أكثر قادة آسيا ثقافة وعلماً. كما أن الرئيس الأسبق «روه مو هيون» الذي عمل الرئيس الجديد مديراً لمكتبه بسبب صداقتهما الطويلة، زار بيونج يانج في 2007 طلباً للسلام، فلم يجن سوى الإذلال. وها هي كوريا الشمالية تستقبل رئيس جارتها الجنوبية المنتخب باستفزاز جديد عبر إطلاق صاروخ باليستي قادر على حمل رؤوس نووية بدلاً من أن تمد إليه يد السلام. إلى ما سبق يريد الرئيس الجديد استقلالية أكبر في العلاقة مع واشنطن في الوقت الذي يفترض فيه أن يعزز علاقات بلاده مع إدارة الرئيس ترامب، ويشدد على التحالف العسكري التاريخي بين واشنطن وسيؤول للتصدي للطموحات العسكرية الصينية المتعاظمة في آسيا. من جانب آخر، يقول الرئيس الجديد إنه سيسعى إلى تعزيز الديمقراطية التي «قوضتها الرئيسة بارك بفسادها»، علماً بأن الفساد الذي يتحدث عنه اقتصر فقط على اختيارها لصديقة شخصية فاسدة، بمعنى أنها لم تستخدم بنفسها منصبها من أجل الإثراء وتجاوز القانون والصلاحيات. وفي هذا السياق، استخدم ويستخدم الرئيس الجديد حقيقة تمتعه بسيرة نزيهة، معطوفة على تاريخ طويل في الدفاع عن حقوق الإنسان، ونشأة عصامية فذة (تقول سيرته الذاتية مثلاً إنه كان يقتات مما كانت تبيعه أمه من بيض على مرفأ بوسان، وهو معلق على ظهرها)، لنيل ثقة الجماهير ودعمها. غير أن العبرة بالخواتيم، حيث إن كل أسلافه تقريباً كانوا نزهاء وعصاميين ومدافعين عن حقوق الإنسان في عهود الديكتاتورية العسكرية، ودخلوا المعتقلات بسبب أفكارهم، لكنهم أنهوا عهودهم بفضائح من عيارات مختلفة، ثم إن الذي يتحدث اليوم عن تعزيز الديمقراطية كان أول من انتهك شيئاً من قواعدها، حينما راح يشحن الجماهير ضد الرئيسة «بارك» في وقت مبكر وقبل أن تتهمها المحكمة الدستورية بالفساد وتقرر عزلها، وذلك في موقف ربما أملته نزعة انتقامية دفينة ضد ابنة الرجل الذي أدخله المعتقل في سنوات شبابه، بل ضدها شخصياً لكونها نافسته في انتخابات 2012 الرئاسية، وفازت عليه وحرمته من كرسي الرئاسة آنذاك. صحيح أن الكوريين الجنوبيين يتطلعون إلى التغيير وبدء عهد جديد. لكن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها «مون جاي» بنسبة 41.5% تقريباً لا تفيد بأن الأغلبية الساحقة تؤيده أو ترى فيه زعيماً قادراً على التصدي للتحديات التي تواجه بلادهم، لذا لجأت نسبة معتبرة من الناخبين تفوق النصف إلى التصويت لمصلحة منافسيه وهما مرشح حزب الرئيسة المقالة «هونغ جون بيو» (23.3%) ومرشح حزب الوسط «أن شيول سو» (21.8%)، قائلين إن سبب عدم تصويتهم لمون جاي هو مخاوف تعتريهم بأنه يساري موالٍ للنظام الحاكم في الشمال، أو لأنهم يشعرون أن التشدد إزاء شغب وتهديدات بيونج يانج يجب أن تكون له الأولوية.