«إننا دولة محظوظة لأننا مرتبطون بالعالم اقتصادياً وسياسياً حداً لا يسمح لأي كان أن يعزلنا، إن هذا أحد أكبر العوامل التي تساعدنا في مقاومة التطرف، حين تتشابك مصالحك مع القوى الكبرى والعالم المتحضر فأنت حينها ستجد الأصدقاء الذين يقفون معك عند الأزمات، إنها تعويذة تحمينا من الانجراف نحو الظلمة». كان هذا تقريباً التعليق الذي سمعته من تركي السديري الذي رحل عن عالمنا أمس الأحد بعد ستة وأربعين عاماً قضاها في رئاسة تحرير جريدة «الرياض» السعودية. فاهَ بهذه الحكمة بعد أن أعلنت وزارة الداخلية في أبريل 2003 قائمة من المطلوبين بتهم الإرهاب تمويلاً وتخطيطاً. كانت جريدة «الرياض» أول صحيفة سعودية تسلط الضوء على الأفكار الغالية للجهاديين، وسمحت وقتها لحسن المالكي وهو باحث في التاريخ أن يتناول بالتفصيل مراجعة ونقد عقائد من قاموا بتفجير العليا في نوفمبر 1995. لسنوات ست كان حسن المالكي أحد أهم كتاب جريدة «الرياض»، حيث وقف السديري وراءه وبذل في سبيل ذلك من وجاهته ووقته ومن سمعته ومن صحته وتحمل الأذى من علماء دين ومن متشددين رأوا أن ما يقوم به المالكي ليس إلا تقويضاً لعقائد السلف. ومن قبل وبعد المالكي فتح السديري جريدته لجيل من الكتاب الشباب الذين جعلوا من مقالاتهم وأعمدتهم منابر لأفق أرحب وأوسع. مر السديري في التسعينيات من القرن الماضي بتضييق واتهامات بانتقاص الدين والسخرية منه، ولكنه سرعان ما استعاد مكانته أقوى مما سبق، بعد أن واجهت البلاد أعمالاً إرهابية كانت الأفكار المتشددة تمثل المحضن والأرض الخصبة لانتعاشها. وكان يتمتع بحصافة وبعد نظر جعلت منه وهو الذي ترعرع فقيراً يشق طريقه مع صعوبات وعقبات حتى نال مكانة لم يحظ بها من قبله رئيس تحرير في تاريخ المملكة. في العام 1991 قام سبعة أفراد من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الرياض باقتحام فيلا، في داخلها أكثر من خمسين من موظفي السفارات الغربية ذكوراً وإناثاً، وهم يحتفلون بليلة رأس السنة الميلادية، تعرض كثير من المحتفلين للضرب والسحب والتهديد بالفؤوس. وتقدمت بعدها عدد من السفارات الأجنبية بشكوى، وتسربت كما هو متوقع القصة إلى الصحافة الغربية. غضب الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز إثر هذه الحادثة، فاتصل عند منتصف الليل بتركي السديري ونفس عما كان يعتلج في صدره: «قال لي الملك فهد إنهم يحرجوننا أمام الدول الغربية، ماذا أفعل بهم؟ قلت له: يا صاحب الجلالة أنت ولي الأمر. أنت الملك، وعليك أن توقفهم عند حدهم، وتحمي سمعة مملكتك»، بعدها أصدر الملك قراره بإعفاء رئيس الهيئات حينها، وتعيين عبدالعزيز السعيد العالم الأزهري الذي كان يقرأ لطه حسين والعقاد، والذي أصدر وقتها بدعم من وزارة الداخلية وبرعاية من الملك فهد قرارات لم تنفذ إلا في العام 2016، حينما أصدر الملك سلمان قراراته بإعادة تنظيم صلاحيات الهيئة. مضى تركي السديري كواحد من أنبل من عرفه الوسط الإعلامي العربي، وأكثرهم وفاء، وقوة وتواضعاً، واحتراماً عند القيادة. لقد كان أكثر من رئيس تحرير، وخليطاً من الأخ الكبير والأب الحاني والسيد الجليل، وهو يكاد يكون أكثر الناس حكمة وقدرة على انتشال أولئك الذين كانوا يوماً ملء السمع والبصر ثم اندثرت أيامهم وعضهم النسيان والتهميش، كان مثالاً في الوفاء، كان تركي رجل دولة يعرف جيداً متى يتحدث ومتى يصون لسانه. وكواحد من أكثر أبناء عائلة السديري احتراماً ونفوذاً وهو الذي ينادى بـ«خال الملوك»، إلا أنه كان لمن عرفوه متواضعاً سهلاً كريماً، مضى وقل نظيره، طاوياً برحيله صفحة الصحفيين العظام. كان بلا مراء فارساً لا مثيل له.