التطرف في كل الجهات والجبهات منبوذة أطرافه ومكروه قلبه ومرفوض تصرفاته ولا يُعار لمبرراته والمدافعين عنه باسم حماية الذات أو القومية الضيقة أي التفات. لأنهم السبب المباشر لتقسيم الأمة الموحدة أهدافها والمعروفة توجهاتها والمقدرة مكانتها أمام شهود العالم أجمع وعيون العقل الواعي والأكمل. ما حدث في فرنسا بالفوز الواضح لـ «ماكرون» على لوبين يعد دليلاً سياسياً وسيادياً قاطعاً على رفض الغالبية العالمية العظمى لموجة التطرف التي بعد أن أكلت أخضر العرب ويابسهم، تريد أن يذهب ببريق الحضارة الغربية وإنسانيتها وراء الشمس التي أشرقت بها الدنيا بعد أن عاشت ظلمات العصور الوسطى حتى جاء نور العلم وأنفاس الحرية في جانبها الإيجابي وتكريم الإنسان لذاته لا لذات الذوات، فانتفضت من تحت ركام السنين العجاف، لكي ينعم العالم بشعاعها وأشعتها الدافئة في اختراعاته وإبداعاته البعيدة عن حمولات الأديان والأعراق وسائر العنصريات والشعبويات. «ماكرون» يريد أن يعيد إلى فرنسا انفتاحها بعد أن كادت تنغلق على نفسها بمبرر الخوف من «الرُّهاب» والإرهاب الذي عانت منه، ولكن هذه ليست كل الحقيقة وإن كانت وقائع متناثرة لا تبنى عليها العودة إلى الانعزالية التي دفعت أميركا ما قبل عهد كلينتون ثمنها غالياً لسنوات فقدت فيها الأحادية القطبية بعد الثنائية، حتى الوصول لتعدد الأقطاب المتصارعة والخوف من العودة إلى حرب باردة أخرى أشرس من سابقتها وأعقد من عقد خيوطها. يقول أحد الأمثلة الأوروبية في هذا الاتجاه نحو الإقبال على العالم كله «إذا فكرت في إغلاق أبوابك عن الآخرين، فلا تغلق نوافذك عنهم». فرنسا «ماكرون» الساعة يريدها «منفتحة» كما علق مباشرة على فوزه، فلو سمحت فرنسا بانغلاق التطرف عليها لناقضت نفسها وهي التي قادت العالم الغربي كله إلى طريق الحرية والعدالة والديمقراطية الواقعية، عندما تمنى الأفغاني والطهطاوي ومحمد عبده أن تصل أنوار «الشانزليزيه» إلى العالم العربي ابتداء من مصر، لأنهم أدركوا حجم مصر في قلب وقالب الأمة العربية والإسلامية. أوروبا كادت تُخطف من قبل اليمين المتطرف في فرنسا ومناصريه في هولندا والنمسا، وألمانيا وغيرها من بقاع القارة التي يريد هذا البعض أو هذه القلة جرها إلى معارك ليست من صالح الأمة الأوروبية قاطبة. ألا يكفي العالم الأكبر ما يعانيه العالم الأصغر من موجات التطرف والعنف والإرهاب، حتى يجر نفسه إلى ذات المستنقع ولو باسم الديمقراطية؟ يكفي «ماكرون» أنه سيوقف هذا المد اليميني والمتطرف وإن أقر باحترامهم بعد هزيمتهم النكراء. فرنسا ليست دولة هيِّنة في منظومة الاتحاد الأوروبي، فثقلها لا يقل عن ألمانيا، أو بريطانيا وإن كانت تعاني اليوم استحقاقات خروجها في «البريكسيت»، وكادت فرنسا بقيادة «لوبن» تذهب هي أيضاً في ذات الاتجاه، حتى انتصر عقل الاعتدال على التطرف وإن كان أوروبي المصدر والمنبع. فرنسا من الأمم الحية منذ عقود مضت، فهي قائدة القاطرة الأوروبية والأميركية نحو بناء حضارة يمكن للجميع أن يستظل بظلها ويستفيد من منتجاتها الفكرية والعلمية. ففرنسا «ماكرون» رسالة شاملة إلى اليمين الذي يؤثِر التطرف في قلب الانفتاح العالمي، حتى يعيد النظر في برامجه ومشاريعه الانتخابية المقبلة، في دول أخرى يصارع فيها من أجل الحصول على أغلبية ولو يسيرة للانقضاض على البقية الباقية من مكانة الإنسان الحر في صرح البناء العالمي. وهي رسالة غير مباشرة إلى المتطرفين الغارقين في موجات العنف تجاه بلدانهم وأوطانهم، أن يصحوا من غفلتهم الفكرية وينجو بأنفسهم مما عملته أيديهم طوال أكثر من ست سنوات من رحلة «الربيع العربي» التي طمست أنوار الحق باسم الدين الإسلامي الذي أصبح الضحية الأولى والمتهم الأول في كل حادثة إطلاق نار في أي مكان أو حتى في الهواء الطلق، فإن صداه في العالم يعتبره البعض إسلامياً، وأثره سلبيا، حتى لو دبجت المقالات ولو في حجم المجلدات. لابد أن نسير مع الغرب في طريق الانفتاح الذي يغلق على أي متطرف طريق العودة إلى الهدم من أجل العدم وليس خدمة للأمم، ففي فرنسا اليوم شاب طموح يدرك معاني هذه التطلعات البشرية نحو عالم متعاون ضد التطرف بيمينه وشماله وفي شرقه وغربه. لقد استطاع «ماكرون» في هذه الانتخابات أن يزيح كابوس اليمين المتطرف عن قلب فرنسا، ويرميه إلى الأطراف باحترام قواعد الديمقراطية الفرنسية وبقائه في خانة المنافسة وفق اللعبة السياسية لسنوات. رغم أن العرب والمسلمين يعانون كل أنواع التطرف، إلا أن وقف الزحف الغربي نحو التطرف أيضاً يخدم المشروع الأكبر لمحاربة الإرهاب، الحصيلة المباشرة للتطرف الذي يستحق بتر أطرافه أينما وجد.