في تقرير التوقعات الاقتصادية للدول الآسيوية ودول المحيط الهادئ، والصادر عن صندوق النقد الدولي منتصف هذا الأسبوع، حذرت المنظمة الدولية من أن دول المنطقة رغم تمتعها حالياً بمعدلات نمو اقتصادي - هي الأفضل بين مناطق العالم حالياً- فإنها قد تواجه عن قريب برياح اقتصادية معاكسة، نتيجة تعرض مجتمعاتها لزيادة ملحوظة في متوسط أعمار أفرادها، ضمن الظاهرة المعروفة بتشيخ المجتمعات. وتوصل صندوق النقد لتوقعاته تلك، بناء على البيانات والإحصاءات التي تظهر أن النمو الاقتصادي في الدول الآسيوية ودول المحيط الهادئ، تتصاعد وتيرته، إلا أن التوقعات قريبة المدى، تتسم بالسلبية، بسبب سحابة كثيفة من الغموض الشديد، ومن تفاقم حجم المخاطر. وعلى المدى المتوسط، يواجه النمو الاقتصادي لدول المنطقة رياح اقتصادية معاكسة، نتيجة تشيخ أفراد المجتمع، وما سيؤدي إليه هذا من تباطؤ وتراجع في متوسط إنتاجية الفرد، وإنتاجية القوى العاملة إجمالاً. ولفهم ظاهرة تشيخ المجتمعات (Population Ageing)، لا بد أن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن متوسط العمر، والزيادة في هذا المتوسط التي تمكن أفراد الجنس البشري من تحقيقها خلال القرون الماضية، وبشكل غير مسبوق بين جميع أنواع وأصناف الكائنات الحية الأخرى. بداية، يشير مصطلح «متوسط أو متوقع الحياة» أو «مؤمل العمر» (Life Expectancy) إلى عدد السنوات التي يتوقع، أو يؤمل للمرء أن يحياها، عند ولادته، في بلد ما، خلال فترة زمنية محددة. فعلى سبيل المثال، في الوقت الحالي، يتوقع للإناث اللاتي يولدن في هونج كونج أو اليابان، أن يعشن لفترة تقارب 87 عاماً، بينما يتوقع للإناث اللاتي يولدن في دولة «سوازيلاند» بالجنوب الشرقي للقارة الأفريقية، أن يعشن لفترة تقل قليلاً عن 49 عاماً، حسب إحصائيات الأمم المتحدة. كما لا يقتصر هذا الفارق البيّن على اليابان وسوازيلاند، بل يتكرر بين العديد من الدول مثل إيطاليا وسويسرا، واللتين يتوقع لمن يولد فيهما أن يعيش لأكثر من ثلاثة عقود، مقارنة بمن سيولدون في عدد من الدول الأفريقية. ويعتبر المتوسط العالمي العام، لمؤمل أعمار أفراد الجنس البشري، والبالغ 67 عاماً حالياً، نقلة مفصلية في تاريخ التطور البيولوجي للإنسان. وهو ما يتضح من حقيقة أن مؤمل عمر الفرد في عصر الإمبراطورية الرومانية، كان يتراوح ما بين 20 إلى 30 عاماً، ليصل في عصور الخلافة الإسلامية المتأخرة إلى أكثر من 35 عاماً فقط. ولكن على نقيض من النظرة الإيجابية التي ترى زيادة متوسط العمر كنجاح بشري بيولوجي، أحياناً ما يصطدم هذا التغير الديموغرافي بنظرة سلبية، حيث يعتقد البعض أن هذا التغير سيؤدي إلى تبعات اقتصادية سلبية، في شكل ازدياد تكاليف الرعاية الصحية التي سيحتاجها هؤلاء المسنون، وغيرها من مصاريف الرعاية الاجتماعية والمالية، ودون مساهمة مماثلة في الناتج الاقتصادي القومي، وبالتحديد ريع الضرائب في الدول التي تقدم لمواطنيها رعاية طبية من خلال نظام صحي مجاني يعتمد في تمويله على أموال دافعي الضرائب. وهو ما سيلقي بعبء أكبر على كاهل القوى العاملة الشابة، ويقلل من قدرتها على إنجاب الأبناء وتنشئتهم، مما سيؤدي إلى تراجع معدلات المواليد، ليدخل المجتمع حينها برمته في دائرة خبيثة من التشيُّخ، أي تراجع المواليد الجدد، والمترافق بزيادة متوسط أعمار الأفراد، وخصوصاً من تخطى منهم العقد السادس. ورغم أن ظاهرة تشيخ المجتمعات تتفاقم حالياً في عدد من مناطق ودول العالم، وخصوصاً بين شعوب القارة الأوروبية واليابان، وباقي الدول الصناعية الغنية، فإن تلك الدول كانت تتمتع بثراء قومي، وبمتوسط دخل فردي مرتفع قبل أن تجتاحها أمواج الشيخوخة، على عكس الدول الآسيوية والمحيط الهادئ حالياً. وهو ما حدا بصندوق النقد الدولي إلى تحذير هذه الدول من أنها «ستشيخ قبل أن تثري»، بمعنى أنها ستصاب بالشيخوخة، قبل أن يتوفر لها الثراء والمصادر المالية التي ستحتاجها للحفاظ على نفس مستوى «نوعية الحياة» لأفراد مجتمعاتها. ويطرح الصندوق عدداً من الحلول، أو بالأحرى التوصيات، لمواجهة هذه الظاهرة، والتخفيف من وقعها وتبعاتها. مثل زيادة مساهمة المرأة في القوى العاملة، ورفع سن التقاعد، ومكافحة التمييز السلبي ضد المسنين، وقبول أعداد أكبر من المهاجرين من الدول التي تتمتع بمتوسط أعمار تنتمي إلى فئة الشباب، مع دعم قوي لنظم التقاعد والمعاشات، وزيادة حجم التجارة الخارجية، مع التركيز على الاستثمار في الأبحاث العلمية، وتوجيه نظم التعليم نحو تأهيل جيل فاعل في اقتصادات المعرفة واقتصادات الابتكار. وأخيراً، ضرورة الاستفادة من خبرة المجتمع الياباني في هذا المجال، حيث مر الشعب الياباني بنفس هذه المراحل سابقاً، وإن كان في الحالة اليابانية، تحقق الثراء أولاً.