هل من عودة للتعصب القومي والعرقي إلى أوروبا الحديثة؟ كل من درس تاريخ ألمانيا الحديث وبخاصة ما أنزلته بها الحربان العالمية الأولى والثانية من دمار، وكل من تابع وعايش نهضتها ومعجزة عودتها بعد عام 1948 إلى الحياة الإنتاجية والمكانة الدولية يتساءل: كم من التقدم والمجد كانت هذه الدولة ستحققه لو لم تسر في درب الحرب، وتراكمت منجزاتها ومجهوداتها المعمارية والحضارية منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم؟ لقد خسرت ألمانيا المليارات من المال ولاشك خلال ذلك القرن، وفقدت الملايين من شبابها وسكانها، وعايشت دماراً لا مثيل له في مبانيها ومتاحفها وقصورها التاريخية. وتكفي الإشارة إلى ما رأت برلين ودرسدن من أهوال. وقد حاول بعض دعاة السلام الألمان إيقاف عجلة الحربين الأولى والثانية مثل كارل فون أوزيتسكي (1889- 1938)، الذي عيّن عام 1920 أميناً عاماً لجمعية السلام في برلين، ووقف بصلابة ضد الحربين العالمية الأولى والثانية، وعندما نال جائزة نوبل للسلام لعام 1935، بلغ الغضب والاستياء من هتلر مبلغاً عظيماً، وأصدر في يناير 1937 قانوناً يمنع فيه الألمان من قبول مثل هذه الجائزة. وكانت السلطات النازية قد اعتقلت «أوزيتسكي»، وكان يعاني من السل، وما لبثت صحته أن تدهورت وهو في السجن قبل أن يتوفى عام 1938، قبل انفجار الحرب المدمرة القادمة بعام. ومن أقواله المعروفة التي عرّى فيها العسكرية المتعطشة للحروب في بلاده، «لم يدمر شيء قضية السلام والديمقراطية مثل هيمنة واستبداد جنرالات الجيش». غير أن تقديس العسكرة وقيم الحرب والمشاعر القومية الجارفة والولاء المطلق للفوهرر الألماني أدولف هتلر لم تكن محصورة بالضباط! ففي كتاب «الجندي في الرايخ الجديد»، وكان هذا بمثابة الكتاب اليدوي والرسمي للجيش الألماني، نرى صيغة قسم من يدخل هذا الجيش من الجنود، وبخاصة إعلان الولاء للفوهرر النازي هتلر شخصياً «أقسم بالله هذا القسم المقدس، بأن أطيع الفوهرر قائد الرايخ والشعب الألماني أدولف هتلر، القائد الأعلى للجيش. وكجندي شجاع باسل، سألتزم دوماً بهذا القسم، مفتدياً إياه بحياتي». فولاء الجيش النازي للفوهرر هتلر، لا للدولة الألمانية، ولا أدري إلى أي مدى تأثرت الدول والأنظمة والجيوش في إعداد صيغ القسم العسكري، وكذلك الحركات الدينية. وكان لـ«الإخوان المسلمين»، وربما لا يزال، أكثر من قَسَم، للجماعة والأسرة، وللعضوية في التنظيم السري ولتولي منصب المرشد العام، وقد تعرض بعضها للتعديل والتغيير. فـ«يمين البيعة» كما ينص كتاب «الإخوان المسلمون»، د. ريتشارد ميتشل هو «أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد في سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها، والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره. وأقسم بالله العظيم على ذلك وأبايع عليه، والله على ما أقول وكيل». أما النص الذي يورده النفيسي في نهاية كتابه «الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية» 1989، فيختلف قليلاً ويقول: «أعاهد الله العظيم على التمسك بأحكام الإسلام والجهاد في سبيله والقيام بشروط عضوية جماعة الإخوان المسلمين وواجباتها، والسمع والطاعة لقائدها في غير معصية ما استطعت إلى ذلك سبيلا وأبايع على ذلك والله على ما أقول وكيل»! وقد وافق «مجلس الشورى العام» في 29-7-1982 على هذا التعديل الذي يظهر بوضوح بعض الاختلاف وإن كان الولاء للجماعة لا يزال محورياً. لم تبرز ألمانيا في مجال الاستعمار الآسيوي الأفريقي بسبب تأخر بروز واتحاد الدولة الألمانية الموحدة. وقد لعبت مجموعة من العوامل والقوى دوراً لاحقاً لدفع ألمانيا بعد عام 1870 مثل ضغط التجار والبعثات التبشيرية ورجال الصحافة إلى التحرك بشكل أوسع وإن كانت مؤسسة «أوزفالت» الألمانية قد ظهرت في المجال التجاري، حيث تمت إقامة فرع لها في زنجبار عام 1849. ولم يكن هتلر متحمساً للتوسع الاستعماري في آسيا وأفريقيا كما يقول في كتابه «كفاحي»، إذ كان يعطي الأولوية لضم الدول المجاورة له في أوروبا باعتبارها ضمن «المجال الحيوي». ويقول صراحة في طبعة 1960 من الكتاب، ما يلي: «إن توسعنا خارج أوروبا لا يحل المشكلة، فليس المطلوب إخضاع بعض الشعوب الملونة للسيطرة الألمانية، إنما المطلوب إحراز أراض أوروبية». ومثل هذا التوسع، كما يقول معترفاً بنفس الصراحة الاستعلائية، سيكون طبعاً على حساب الشعوب الأخرى، غير أنه يبرر ذلك قائلاً: «نحن الألمان نجافي المنطق، ونكذِّب التاريخ بمحاولتنا إقناع أنفسنا بأن التوسع على حساب الآخرين عمل غير مشروع»! وقد رأينا ماذا فعلت هذه السياسة بعد عام 1939 بألمانيا وأوروبا في نهاية الأمر!