في رواية «1984» لجورج أورويل، صاغ الكاتب البريطاني مبدأ حزبياً رمزياً وهو «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي». ومقال «مايك شينوي» الذي نشرته في الآونة الأخيرة «واشنطن بوست» بعنوان «كيف ساعد متشددو واشنطن في خلق الأزمة الكورية الشمالية»، يعتبر مثالاً جيداً لاتباع هذا المبدأ «الأورويلي» من حيث إعادة كتابة التاريخ دون تدقيق الوقائع. وجمل «شينوي» التقريرية الخاطئة واختزالاته مضافاً إليها «ثقوب في الذاكرة» بشأن تصرفات بيونج يانج تتعلق مباشرة بكل من تهديد كوريا الشمالية الحالي وإيران ودول أخرى من تلك التي تنشر الأسلحة النووية. فعادة، تتحلى الدول الطامحة لامتلاك أسلحة نووية بجرأة مثيرة للدهشة في عملها. وفي بعض الحالات تستخدم بالفعل اتفاقات مناهضة لانتشار الأسلحة كتمويه لنشاط أكبر غير قانوني في الأسلحة النووية والصواريخ البالستية. ولسوء الحظ، تنطلي الخديعة على الأميركيين السذج، ويركزون على «الالتزامات» المكتوبة وليس التصرف الفعلي للدول الساعية لامتلاك أسلحة نووية. وتصور شينوي عن تعامل واشنطن السابق مع كوريا الشمالية يمضي على النحو التالي. فهو يزعم أن بيونج يانج قررت التخلي عن برنامجها للأسلحة النووية في اتفاق «إطار العمل» لعام 1994 في مقابل تزويد كوريا الشمالية بشحنات كبيرة من النفط الثقيل والسماح لها، بشكل لا يصدق، بمفاعلين للماء الخفيف، وهو ما قبلته إدارة كلينتون لأنها كانت تعتقد أن هذا النوع من المفاعلات لا يساعد كوريا الشمالية في البرنامج النووي. وهذه الصفقة نجحت لدرجة أن وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت زارت كوريا الشمالية عام 2000، لكن للأسف عصف متشددو إدارة بوش بإطار العمل، وأحبطوا محاولات بيونج يانج فيما بعد للتوصل إلى حل دبلوماسي، ما أسهم في الأزمة القائمة حالياً. هكذا، كان كيم يونج ايل وكيم يونج أون ورفاقهما، «المساكين» الذين يُساء فهمهم، على مقربة شديدة من تحقيق السلام في شبه الجزيرة الكورية، لكن «المتشددين» الأميركيين هم من عصفوا بذلك! لكن الواقع أن اتفاق «إطار العمل» لم يكن إلا واحداً من اتفاقات عدة على مدار ربع القرن الماضي، تعهدت فيه كوريا الشمالية بالتوقف عن مسعى امتلاك أسلحة نووية. وانتهكت بيونج يانج كل اتفاق عادة قبل أن يجف حبر التوقيع عليه. والأهم من هذا أن كوريا الشمالية دأبت على انتهاك التزاماتها تجاه اتفاقية حظر الانتشار وضمانات اتفاقها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ثم انسحبت بيونج يانج فيما بعد من معاهدة حظر الانتشار كليةً، وهو إجراء لا يبني الثقة فيما يتعلق بنوايا امتلاك الأسلحة النووية. وفي عام 1998، كتب السفير «جيم ليلي» وهو واحد من أعظم خبراء أميركا في شؤون آسيا، أن «العلامات تتزايد على أن برنامج كوريا الشمالية للأسلحة النووية لن يتوقف أبداً». وفي عام 1999، وصف وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر، نهج كلينتون بأنه «سياسة الترضية»، وهو محق في هذا. ونظرياً، كان تزويد كوريا الشمالية بالنفط ومفاعلات الماء الخفيف «المضادة للانتشار» تعويضاً مقابل توليد الطاقة «المفقودة» نتيجة إغلاق مفاعل يونجبيون الذي اعتبره فريق كلينتون تهديداً أكبر لجهود منع الانتشار. والواقع أن النظرية على أحسن الفروض وهمية تماماً، فمفاعلات الماء الخفيف يُراد بها أيضاً إنتاج البلوتونيوم، وإنْ يكن بشكل أقل كفاءة. وحتى مفاوضي كلينتون كانوا أقل ثقة في كوريا الشمالية من «شينوي»، فقد اعترفوا فيما بعد أنهم توقعوا، مخطئين، أن النظام سينهار قبل أن تعمل مفاعلات الماء الخفيف. وبعد فترة ليست طويلة من تولي الرئيس جورج بوش منصبه، كشفت أدلة جديدة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، عن أن كوريا الشمالية كانت تتابع مسعى تخصيب اليورانيوم للوصول إلى امتلاك أسلحة نووية. وكان التخصيب أسهل في إخفائه، ويتسق مع ميل بيونج يانج الراسخ نحو تنفيذ أنشطة غير مشروعة في أبنية تحت الأرض لا تستطيع عمليات الاستطلاع الجوية رصدها. ولذا كانت انتهاكات «الشمال» واضحة مع بداية عام 2002 لدرجة أنه حتى المدافعين عن اتفاق «الإطار» في وزارة الخارجية لم يستطيعوا تسويغ الشهادة بالتزام كوريا الشمالية بتعهداتها كما طالب الكونجرس بذلك. وفي السياق الحالي، تقاعست وزارة الخارجية في الآونة الأخيرة حتى عن هذا الاختبار الأساسي وهو الشهادة، على عكس الحقيقة، بأن إيران تلتزم باتفاق إدارة أوباما النووي. وأصبحت الأدلة على انتهاكات كوريا الشمالية لاتفاق «إطار العمل» واضحة في النهاية، لدرجة أن إدارة بوش قررت مواجهة بيونج يانج بما لدينا من أدلة. وفي مواجهة شهيرة الآن، في الرابع من أكتوبر عام 2002، بعد أن أنكرت كوريا الشمالية قبل يوم قيامها بتخصيب اليورانيوم، أقر بذلك كانج سوك جو النائب الأول لوزير خارجية كوريا الشمالية للوفد الأميركي. وبعد مهزلة السنوات الثماني تلك، فمن الصعب استيعاب وجود أي شخص يصدق التزام كوريا الشمالية بمسعى التخلي عن امتلاك الأسلحة النووية. والمشكلة الحقيقية هي أن كثيرين من راجحي العقل مستعدون لأن يصدقوا أن الاتفاقات تصنع الواقع وليس التصرف الفعلي. وعادة يقول الصحفيون والدبلوماسيون أموراً مثل إن «الاتفاقات أنهت البرنامج النووي». لكن من نافلة القول، إن الاتفاقات لا تنهي برامج، بل ما يفعل هذا هو التصرفات الفعلية للأطراف المشاركة في الاتفاق. والدروس المعاصرة واضحة. وفي الماضي، بينما كان الأميركيون المؤمنون حقاً يبتهلون في صلواتهم ويوقدون الشموع العطرية من أجل اتفاقات «خيالية» مع كوريا الشمالية وإيران وسوريا، ومن على شاكلتهم، كانت هذه الدول المارقة تسعى وراء مطلبها. لقد حان وقت مواجهة الواقع. جون بولتون* *السفير الأميركي السابق في الأمم المتحدة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»