ثلاثي معرفي في أدوات التعبير. يأخذ البعض العلم. فالعلم مؤثر على الأمد الطويل من خلال الجمعيات العلمية وتأسيس المعاهد العلمية ومراكز البحث العلمي وممارسة التجارب العلمية المحلية والدولية. فالبحث العلمي ليس مقصوراً على أحد، على شعب أو عقلية أو حضارة. واستطاع العلم في الغرب أن يكون بديلاً عن المعارف الكلية المسبقة في الكنيسة أو في العقائد أو في التقاليد أو في التراث عموماً. وآثر المعارف الجزئية بمناهج سميت فيما بعد مناهج علمية تاريخية لجمع المعلومات الخالية من الأساطير والخرافات الكلية والتحقق من صدقها. وبالرغم من مميزات العلم يظل محصوراً بين العلماء. تمارسه طبقة صغيرة من المجتمع في الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي. لا يفهمه إلا الخاصة. له لغته الرياضية أو الرمزية. وينطبق في دائرة ضيقة، يؤثر في المجتمع عن طريق تحويله إلى تكنولوجيا وفوائد علمية في المواصلات والاتصالات. ويظل العلماء ذوي عقلية علمية مغلقة. وتظل عقلية الشعب في خرافتها. إذ لم يتحول العلم إلى ثقافة عامة وإلى ثقافة وطنية بحيث يصبح العلم ثقافة للعامة وليس فقط للخاصة. وبعدما يصبح العلم ثقافة شعبية للعامة تتحول هذه الثقافة إلى ثقافة عقلية تجريبية، خالية قدر الإمكان من الخرافة والخزعبلات. فيتحول العلم إلى ثقافة شعبية، وتصبح الثقافة العامة ثقافة علمية. وعلى أساس هذه الثقافة الشعبية العلمية تقوم المؤسسات والنظم وتسن القوانين. فالعقل جزء من الحياة العامة وعليها يستند. ويعلم الشعب أن هناك مصدراً آخر للمعرفة غير الموروثات، وأن هناك معارف ضرورية يقينية. وفي هذه الحالة يكون المجتمع مجتمعاً علمياً، وثقافته ثقافة علمية. وهو مجتمع الأمن والاستقرار، والتوازن والعقلانية في توزيع الدخل وتحصيل الأجر وتحديد الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور. ثم تتحول الثقافة الشعبية إلى ثقافة وطنية، ثقافة ملتزمة بقضايا وطن العالِم. ومن ثم التزام الثقافة بقضايا الوطن تكوّن ثقافة وطنية. ويكون الثلاثي، العلم والثقافة والوطن، ثلاثية لا تفترق. العلم يؤصل. والثقافة تبعث. والوطن يحيا. وتعبر الثقافة الوطنية عن نفسها بالشعر والرواية والمسرحية. وهي الفنون القادرة على التعبير وليس فقط على المتعة. هذا الثلاثي يضمن الحراك الاجتماعي، إذ يقوم على العلم فهو أساسه الأول. ويقوم على الثقافة العلمية التي تقوم على العلم من ناحية وعلى الوطن من ناحية أخرى. وقد قامت معظم الثورات على هذا الثلاثي. تحول العلماء إلى ثوار. فهم منظّروها من أعلى إلى أسفل. وتحول قادتها الشعبيون إلى منظرين لها من أسفل إلى أعلى. وجسدها الطبقة الوسطى تجمع بين الاثنين. وهنا تتجنب الثقافة عزلة العلماء، والتمييز بين الخاصة والعامة. ويضطر العالِم إلى أن يحول علمه إلى ثقافة وأن يحول نفسه من عالم إلى مثقف. ويتحول العلم إلى ثقافة علمية. فتتخلص الثقافة من كل أوهامها. وتصبح علماً واسع الأداء، رحب الآفاق. فالعلم ليس فقط معادلات رياضية لفهم الطبيعة والسيطرة على قواها بل هو تصور للعالم خالِ من السحر والخزعبلات. يمهد لعالم خالِ من المعجزات ويجعلها تاريخية خالصة. استعملها الأنبياء لإيمان الناس بهم وبما أتوا به من وحي قادر على فعل المعجزات. فإذا تحول العالم إلى مثقف وخاطب جمهور المثقفين الأوسع، وطبق مناهجه العلمية في تحليل الأوضاع الثقافية فإنه يخرج من دائرة العلماء الأضيق إلى دائرة المثقفين الأوسع والخطاب العلمي الثقافي. وقد حاول بعض العلماء ذلك مثل "أوبنهيمر" في "الفلسفة والطبيعة" وأينشتاين في "كيف أرى العالم؟". فإذا تحول العالم المثقف إلى عالم مثقف وطني، فإنه يصبح نشطاً سياسياً. يحقق العلم ليس فقط في الثقافة وحدها بل في الثقافة والسياسة. فالوطن هو الغاية القصوى للعلم والثقافة. والسياسة هي المصب النهائي للعلم والثقافة والتي تسمى أيديولوجيا. وهنا يصبح للعلم بعدان: الثقافة والسياسة. كما تصبح للثقافة بعدان: العلم والسياسة. وتصبح للسياسة بعدان: العلم والثقافة تجنبا لعزلة العلماء. ولا يقبل مبرر واحد لعزلة العلماء ولا لعزلة الثقافة. فالعالِمُ عالمٌ في مجتمع. والثقافة ثقافة مجتمع. والسياسة سياسة اجتماعية. والمجتمع كله جزء من حركة التاريخ. ولا أحد يسبق الآخر. والعيب في المجتمعات النامية أن يظل العلماء على هامش المجتمع بدعوى البعد عن السياسة أو أن يظلوا مثقفين دون أن يتحولوا إلى سياسيين. والعيب في المجتمعات النامية أيضاً أن يتحول النشطاء السياسيون إلى علماء وهم لم يتكونوا بعد، وأن تظل الطبقة المثقفة المتوسطة بلا حَراك. *أستاذ الفلسفة- جامعة القاهرة