تُفهم السياسة العالمية تقليدياً باعتبارها تنافساً كبيراً بين الدول، وكثيراً ما تشبّه برقعة شطرنج يلعب عليها الساسة الدوليون لعب الاستراتيجية. ولكن في كتابها الجديد «رقعة الشطرنج والشبكة» تقلب آن ماري سلوتر هذا المفهوم رأساً على عقب مقدمةً تشبيهاً جديداً: شبكة عالمية من الشبكات تُلعب فيها اللُّعب ليس من خلال التفاوض والمساومة، وإنما من خلال بناء الروابط والعلاقات. في بداية «محاضرات هنري ستيمسن» بجامعة يل في عام 2015، وهي المحاضرات التي يستند إليها هذا الكتاب، أوضحت سلوتر، أستاذة العلوم السياسية التي تُعد مرجعاً في القانون الدولي وتشغل الآن منصب رئيسة «معهد أميركا الجديدة» في واشنطن، أن فكرة هذا الموضوع خطرت لها حين كانت تشغل منصب مديرة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأميركية، مشيرةً إلى أن ممارسة السياسة الدولية باعتبارها «لعبة كبيرة»، تقوم على تنافس مستمر بين قوى متكافئة وذات سيادة على تحقيق امتياز استراتيجي، كانت في حاجة كبيرة لتحديثٍ جذري من أجل عالم أخذت تشكّل فيه الشبكات، التي تكاثرت جزئياً بفضل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ملامحَ نظام عالمي مختلف. وتطمح سلوتر إلى أن يكون كتابها الجديد دليلا في مجال السياسة الخارجية في هذا العالم الجديد. فسواء تعلق الأمر بالعلاقات بين البشر أو الإرهاب، الشركات الناجحة أو منظمات الجرية المنظمة، الخدمات الحكومية أو تدخل الحكومات في سياسات بعضها البعض.. تقول سلوتر، فإننا نعيش في فجر «عصر شبكات» باتت فيه «كل البشرية مترابطة تحت السطح مثل أشجار منطقة آسبن العملاقة في ولاية كولورادو الأميركية التي تشكّل جميعها في الواقع جسماً واحداً». غير أن صناع السياسة الخارجية، كما تقول، مازالوا يلعبون على رقعة الشطرنج ثنائية الأبعاد الموروثة عن اتفاقية «سلام ويستفاليا»، التي أنهت «حرب الثلاثين عاماً» في أوروبا في القرن السابع عشر، وذلك لأنهم يفتقرون لاستراتيجيات للشبكات. لكن ما الذي تقصده سلوتر بالشبكات تحديداً؟ الشبكة هي أي مجموعة من الروابط والعقد. وهذه الأخيرة قد تكون مرئية في حالة الإنترنت مثلا، لكنها يمكن أن تكون غير رسمية مثل «شبكة الخريجين القدامى»، أو سرية تشتغل تحت الأرض مثل الشبكات الإجرامية. باختصار، إنها أي مجموعة من الأشخاص أو الأشياء المترابطة بعضها ببعض بشكل مستمر. لكن أكثر ما تكتب عنه سلوتر، مثلما تقول، هو الشبكات الإجرامية العالمية، مثل شبكات الإرهابيين ومهربي الأسلحة، أو شبكات الشركات العالمية والوطنية، وكذا شبكات المنظمات غير الحكومية الأهلية والجامعات. أما الاستراتيجية الكبرى التي تقترحها سلوتر، فهي نظام دولي يقوم على ثلاثة أركان: مجتمع مفتوح، وحكومة مفتوحة، ونظام دولي مفتوح. وتقول في هذا الصدد إن «المفتوح في مقابل المغلق» يمثل خط الصدع في العصر الرقمي، على نحو ما كانت تمثله «الرأسمالية في مقابل الشيوعية» خلال القرن الماضي. وفي النظام الجديد، الذي حلت فيه الشبكات محل الدول المتنافسة، فإن الانفتاح، وفق سلوتر، يعني المشاركة والشفافية والاستقلالية ومقاومة التحكم أو فرض قيود على المعلومات. تجربة سلوتر الحكومية كانت في وزارة الخارجية حين كانت هيلاري كلينتون على رأسها، وقد فرغت من تأليف كتابها قبل انتخابات 2016 الرئاسية (ويشار هنا إلى أن الكتاب لا يحوي أي إشارة إلى دونالد ترامب)، وفيه توصف الاستراتيجية الكبرى التي تتحدث عنها باعتبارها شيئاً يتعين على الرئيس المقبل تبنيه. بيد أنه إذا كان الكتاب يتمحور حول تحول عالمي مستمر في العلاقات الدولية، وليس حول الحركات السياسية الحالية التي أدت إلى انتخاب الرئيس ترامب أو إلى صعود الحركات السلطوية والقومية في أوروبا وغيرها، فإن المرء لا يملك إلا أن يتساءل حين قراءة «رقعة الشطرنج والشبكة»: كيف يمكن أن تطبيق الاستراتيجية الكبرى التي تدعو إليها سلوتر على هذه الوقائع السياسية؟ في عام 1961، استخدم كتابُ توماس شيلينج، «استراتيجية النزاع»، «نظريةَ اللعبة» ليعيد تصور العلاقة الأميركية السوفييتية بشكل جذري ويرسي أسس العلاقات الدولية لبقية الحرب الباردة. واليوم، تطبق سلوتر «نظرية الشبكة» لتطوير مجموعة جديدة من الاستراتيجيات من أجل عالم ما بعد الحرب الباردة. ولئن كانت العلاقات التنافسية وفق أسلوب رقعة الشطرنج مازالت موجودة (العلاقات الأميركية الإيرانية نموذجاً)، فإن العديد من المشاكل الأخرى تقتضي ألا ننظر إلى الكيانات الفردية وإنما إلى علاقاتها بعضها ببعض. محمد وقيف الكتاب: رقعة الشطرنج والشبكة.. استراتيجيات الاتصال في عالم الشبكات المؤلفة: آن ماري سلوتر الناشر: يل يونيفرستي برِس تاريخ النشر: 2017