جرت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية يوم الأحد، الرابع والعشرين من أبريل الجاري، وأسفرت عن فوز مرشحين من خارج الحزبين الرئيسيين: إيمانويل ماكرون الذي فاز بأكبر عدد من الأصوات، متبوعاً بمرشحة أقصى اليمين مارين لوبين. وبهذا، سيتنافس المرشحان اللذان احتلا المرتبتين الأولى والثانية في جولة إعادة في السابع من مايو المقبل. وتُعتبر هذه أهم انتخابات في أوروبا منذ استفتاء «البريكسيت» الذي جرى في بريطانيا في الثالث والعشرين من يونيو حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الانسحاب منه. ولعل أبرز ما ميز هذا الاستحقاق هو أن مرشحي الحزبين الرئيسيين الاشتراكي والمحافظ اللذين هيمنا على الحياة السياسية الفرنسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كانا من الخاسرين، وهذه الصدمة لوحدها تسببت في زلزال سياسي في أوروبا. والواقع أن الرهانات كبيرة جداً، ذلك أن فوز لوبين سيمثّل كارثة بالنسبة للمشروع الأوروبي على اعتبار أن هدفها المعلن هو إخراج فرنسا من منطقة اليورو وحلف «الناتو»، والدعوة إلى استفتاء حول عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي، وفرض قيود مشددة على الهجرة، لاسيما من البلدان المسلمة. وتقول لوبين في هذا الإطار: «إن لدى الشعب الفرنسي اختياراً بسيطاً جداً: إما أن نستمر على طريق إلغاء القيود والضوابط، أو أن نختار فرنسا». وبالمقابل، يُعد ماكرون من المؤمنين بالوحدة الأوروبية، وهو يدعم «الناتو»، ويرغب في إصلاح الأنظمة السياسية العتيقة وتقليص الإنفاق العام، لكن مع زيادة الاستثمار. المؤشرات الأولى تشير إلى أن معظم أنصار الحزبين الرئيسيين اللذين خسرا انتخابات الأحد الماضي يعتزمون التصويت لصالح ماكرون في السابع من مايو المقبل. ولا شك أن هذا يمثّل خبراً ساراً بالنسبة لكل من يدعمون وحدة أوروبا، لكن بشكل خاص بالنسبة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي تسعى لإعادة انتخابها في الاستحقاق الذي ستشهده بلادها في سبتمبر المقبل. وفضلاً عن ذلك، فإن من شأن فوز ماكرون أن يقوّي الموقف التفاوضي للاتحاد الأوروبي أمام رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التي تأمل أن تحقق نصراً بيناً في انتخابات الثامن من يونيو المقبل التي دعت إليها بشكل مفاجئ مؤخراً. وإلى جانب لوبين، يمكن القول إن الخاسر في حال فوز ماكرون هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان ودوداً وكريماً للغاية مع مارين لوبين خلال السنوات القليلة الماضية. وبالنسبة لبوتين، الذي يسعى إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي والناتو، فإن لوبين تمثّل المرشحة المثلى لتحدي الخطاب الذي ساد أوروبا خلال فترة ما بعد الحرب وتميز بعناوين وشعارات من قبيل الوحدة الأوروبية، والعولمة، وتوسيع الناتو إلى أوروبا الشرقية. وبالتالي، فإن من شأن هزيمة لوبين في الانتخابات أن تمثّل ضربة مزدوجة لبوتين الذي خُذل من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي كان مرشحَه المفضل وكان يتوقع منه سياسة أميركية أكثر تصالحية تجاه روسيا. لكن بدلاً من ذلك، يبدو أن ترامب وإدارته أخذا ينحوان تدريجياً نحو التماهي مع الدعم الأميركي التقليدي لأوروبا قوية، وحلف ناتو قوي، واستمرار العقوبات ضد روسيا بسبب أعمالها «غير القانونية» في أوكرانيا. ويأمل كثير من المعتدلين في أوروبا وأماكن أخرى عبر العالم أن تلقى لوبين في جولة السابع من مايو المقبل المصيرَ نفسه الذي لقيه نظيرُها الهولندي جيرت فيلدرز، زعيم حزب «من أجل الحرية» اليميني المتطرف، الذي مُني بهزيمة نكراء على يد ائتلاف الوسط الحاكم بزعامة مارك روته. وهو ما من شأنه أن يعزز قوة الوسطيين في أوروبا الذين لا يرغبون فقط في الحفاظ على الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، لكنهم يعملون أيضا مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أجل مواجهة تحدي الهجرة غير القانونية من آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، والتي باتت تطرح أكبر تهديد بالنسبة للأمن الأوروبي منذ أزمات البلقان خلال عقد التسعينيات. ذلك أنهم يدركون أنه لا يمكن النجاح في الحد من تدفق المهاجرين إلا من خلال تنمية اقتصادية ناجحة لدى جيرانهم الجنوبيين، وأن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يتأتى طالما أن المنطقة تعاني من أعمال العنف والحروب الأهلية. وهو ما يعني ضرورة أن تزيد أوروبا من التزامها المالي بتحسين وتعزيز قدراتها الأمنية، بما في ذلك مراقبة الحدود والاستثمار بشكل أكبر في المعدات العسكرية. وعلاوة على ذلك، فإن من شأن انتصار ماكرون أن يعني نهاية مؤقتة لتصاعد القومية الذي ظهر خلال الآونة الأخيرة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وبين عدد من الأحزاب السياسية في أوروبا. كما يمكن أن يشكّل وزناً مضاداً للمزاج العام السلبي الذي صاحب انتصارَ ترامب في نوفمبر 2016، ويؤشر إلى بدايات تعافي الوحدة الأوروبية الجريحة. ومما لا شك فيه أن هذا سيمثّل خبراً ساراً لكل من يعتبرون استقرار أوروبا ورخاءها سمة أساسية من سمات التعاون الدولي والعلاقات التجارية العالمية.