ينطلق الاتجاه المؤيد لتجريم ازدراء الأديان في الدول العربية من مبدأ عدم جواز الإساءة إلى المجتمع الذي يحتضن المعتقدات الدينية، وأن التهكّم على قطعيات الدين ورموزه وأشخاصه قد يستفزّ المؤمنين بها، لعمق الشعور الديني فيهم، وتشحن قلوبهم بالكراهية والبغضاء، فيلجأ بعضهم إلى العنف، وفي هذا ترويعٌ للمجتمع وضربٌ لاستقراره. وأن الهدف من التجريم ليس مصادرة الرأي الآخر، ولا التضييق على الفكر المخالف، وإنما منع النيل الرخيص من المقدسات الدينية. وثمة اتجاه ضد تجريم ازدراء الأديان، من مبدأ أنه لا معنى لقولنا إن المخلوق يسيء إلى الخالق، وأن هذه القوانين تستخدم للتضيق على المفكرين والكتّاب وأصحاب الرأي، وليس فقط لردع من ينالون من الأديان بشكل رخيص، وأنه إذا كان ثمة حاجة للتجريم في هذا السياق، فللأقوال والأفعال المرتبطة بالحضّ على كراهية الأشخاص أو الدعوة للتمييز ضدهم بسبب الدين، كما هو معمول به في بعض الدول الغربية. وعلى الرغم من وجاهة الرأي الثاني، ذلك أنه إذا كان للبيت ربٌ يحميه، كما نُقل عن عبدالمطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام قوله حين جاء أبرهة الحبشي ليهدم الكعبة، فمن باب أولى أن الله يحمي دينه من مجرد الآراء والكلمات، فإنه مع هذا، لا يمكن أن نقعد نتفرج على ردّات الفعل الهائجة على الإساءة إلى الأديان في ظل ثقافة دينية ترى أن من واجب المسلم ردع من يتفوّه بكلمة مسيئة، باليد إن استطاع. ففي ظل هذه الثقافة لابد فعلاً من وجود قوانين تحول دون استفزاز المؤمنين، لئلا يلجؤوا إلى العنف ويدمروا كل شيء من حولهم. لابد قبل المطالبة بإلغاء تجريم ازدراء الأديان السعي نحو تغيير الثقافة التي تحثّ المؤمن على الانفجار لمجرد سماعه رأياً مخالفاً أو كلمة مسيئة، وتربط مدى عمق إيمانه بدرجة غضبه واحمرار وجهه واستعداده للاعتداء على من يتجاوز بالرأي والكلمة، فهي ثقافة لا تمت للقرآن الكريم بصلة، وغير صحيح أن عمق الشعور الديني هو الذي يستفز المؤمن، فلو كان ثمة عمق في شعوره الديني، لالتزم هذا المؤمن السبيل الذي رسمه القرآن الكريم في التعامل مع من يستهزئ ويتهكّم، وليس بما تقوله الثقافة الدينية السائدة، أو لاكتفى بمقارعة الحجة بالحجة، والكلمة بالكلمة، لا أكثر ولا أقل. فالقرآن الكريم يأمر المؤمن بالإعراض عن الذي يخوض في آيات الله حتى يخوض في حديث غيره، ويأمره بألا يقعد مع من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها حتى يخوض في حديث غيره، ويأمره بألا يسبّ من يدعو من دون الله فيسبّ الله بغير علم، ويتوعد الله من يستهزئ بالمؤمنين بأنه سبحانه من يستهزئ به، ويعد الله نبيه بأنه سيكفيه المستهزئين، وعشرات الآيات التي تؤكد على معنى أن الله وحده حسيب من يتطاول ويستهزئ. وإذا كان ثمة عمق في الشعور الديني فعلاً يجعل المؤمن مستفَزّاً أربعاً وعشرين ساعة، فليس في القرآن الكريم أي دعوة للثورة والغضب لمجرد سماع رأي مضاد أو كلمة مسيئة، بل ليس هناك أي دعوة لفرض عقوبة على من يتطاول بالرأي والكلمة، وإنما دعوة للإعراض عنه بهدوء، وحسابه على الله يوم القيامة.