أكتب مقالتي هذه من مدينة مونتريال الكندية، حيث أتمشى في منطقة كيركلاند (Kirkland) بجنب قصور من دون أسوار، كل بيت يقول أنا وليس غيري، من بيت أبيض يذكر بالبيت الأبيض الأميركي، وآخر بأعمدة تذكر بالبتراء من الأردن أو تدمر السورية وآثار الرومان، وثالث مزين بكل نبتة وشجرة مذكرة بقصور ألف ليلة وليلة، حتى وقع بين يدي بحث عن فلسفة البناء الجديدة، لبناء كهوف عصرية لبني آدم. وفعلاً سألت نفسي هل يحتاج الإنسان إلى قصور للسكن؟ أم هل تجلب السعادة السعة في المكان؟ الحكومة الكندية بالطبع تنتبه إلى هذا التوسع فترهقه صعوداً بالضرائب. بالطبع في كندا ضرائب مرهقة مقابل خدمات مريحة تذكر بسكن الجنة مع الأمن الاجتماعي وجمال الطبيعة. وحين أدور المنطقة فلا أشعر إلا بالجمال أقول بين القوم والجنة شعرة. وحسب خطة البناء التي يقوم بها المهندس الألماني (فان بو لي منتسل)، فإن المرء لا يحتاج إلى أكثر من 6.4 متر مربع لإيوائه، بما فيها الحمام والمطبخ ومكتب الدراسة ومخدع النوم؟ إنها خطة (الكهوف الجديدة) التي شرع في بنائها في برلين، ومن أراد رؤية النموذج المسمى البيت الدقيق مئة (Tiny 100) فليس عليه سوى التوجه إلى منطقة (كرويتس بيرج) (Kreuzberg)، مقتفياً طريق المترو حتى موقف شارع الأمير (Prinzen Strasse)، وهناك سيواجه المهندس (لي منتسل) وهو يحاول تدفئة المكان بحطب ونار (الشتاء)، والرجل نفسه مع زوجته وطفلين يسكن في شقة لا تزيد على 56 متراً مربعاً. وجوابه عن ضيق المساحة، وماذا عن زوجين أو أطفال معهم، في هذه السكنة؟ جوابه شخصان اضرب الرقم في اثنين، وارفع الرقم إلى أربعة مع أربعة أشخاص، أي أن الزوجين بحاجة إلى 13 متراً مربعاً، والعائلة بطفلين إلى 26 متراً مربعاً! أصغر من كراج أو صالون ضيق؟ ولكن هل من الحكمة اللجوء إلى مثل هذه الكهوف؟ المهندس (منتسل) مقتنع تماماً بجدوى هذه البيوت التي شرع في تصميمها وبنائها، للحاجة الماسة لها في المدن الكبرى في ظروف اللجوء السياسي للملايين، من وراء النكبة السورية والعراقية مثلاً، أو الإيجارات التي تحلق في السماء، فهو يعرض إيجاراً لا يتجاوز مئة يورو في ألمانيا وهي ثمن ثلاث وجبات طعام. من جهة فإن هذه البيوت، إن صحت تسميتها بيتاً أو كوخاً، تعيد إلى الذاكرة عائلات العمال التي عاصرت بداية العصر الصناعي في أوروبا في القرن التاسع عشر لعائلة تعيش في غرفة من عشرين متراً مربعاً، ثم إن موضوع السكن يقوم على دراسته قوم مختصين بعلم النفس السكني (Home Psychology)، فالخبيرة الألمانية آنتي فلاديه (Antje Flade 75) من هامبورج ترى قدراً من الخطر على المراهنة على ضيق المكان حتى لو تم التلاعب بأثاث البيت، فأصبحت الكنبة سريراً والطاولة تُقلب فتختفي بحجمها، فضلاً عن أثره الروحي على الأطفال فهي تورث العدوانية، وهي الدراسة التي وصل من خلالها أيضاً داك كوبيك (Dak Kopec) من بوسطن، وهو خبير بيئي في موضوع التصميم والصحة النفسية (Design and Healthcare)، أو حسب الأبحاث التي قام بها فريق من جامعة كورنل (Cornell Uni) من ولاية نيويورك، أن العيش في مثل هذا الضيق ينبت المشاكل بين النساء وتخف عنايتهن بالأطفال. في ألمانيا انتبهت شركات مثل (GBI – 1 -Live) إلى موضوع المساحة فبنت مجمعات صغيرة في المدن المزدحمة مثل فرانكفورت وميونخ وكولن، بمساحة 20 متراً مربعاً، وهي تنفع في عطل نهاية الأسبوع أو للطلبة. وحسب الخبير النمساوي هارالد داينس بيرجر داينس فيجر (Harald Deinsberger - Deinsweger) أن ما تقوم به شركة أيكيا (Ikea) السويدية في الأثاث بغرفة مكتملة لزوجين، لن تنجح بحال، وتنتهي غالباً بالانفصال، إن لم يكن بالطلاق، فهناك مساحة حرجة يحتاجها كل إنسان، ويبدو أن الرقم 85 متراً مربعاً لمتوسط العائلات في ألمانيا معقول جداً، وحسب (والتر جروبيوس) عالم نفس بيئة الإسكان (Walter Gropius)، مؤسس حركة بناء البيوت (Built House Movement)، فهو ينوه في كل المحاضرات، خاصة فيما بتعلق بسكن عمال المصانع، أن الحكمة لا تكمن في المساحة بقدر الإشراقة، أي بقدر ضيق الغرف بقدر الحاجة لنوافذ بانوراما عريضة ومطلة على الطبيعة، وهكذا نعرف - نحن الأطباء- أن المرضى في مشافٍ متصلة بطبيعة خضراء أسرع للشفاء من وضعهم بين جدران داكنة مغلقة. نحن في الواقع أمام ثورة جديدة في فلسفة البناء، وليس من فراغ أن يكون انشراح النفس بالانطلاق إلى الطبيعة والعيش فيها بين جدول رقراق وسماء زرقاء وطيور تزقزق.