بدأ اهتمامي بالسياسة الأميركية بجريمة اغتيال الرئيس جون كِنيدي ومنذ ذلك التاريخ يبدو لي أن رئيساً أميركياً لم يُثر من الجدل حوله كما فعل ترامب، ولا تولدت عن توليه الرئاسة ردود أفعال محلية ودولية كتلك التي حدثت بمجرد فوزه، وزادت بعد أن بدأ يضع أفكاره التي أعلن عنها خلال حملته الانتخابية موضع التطبيق. وقد ظهر ترامب على حلبة سباق الرئاسة وكأنه وافد غريب لا ناقة له ولا جمل في معتركها. ثم فاجأ الجميع بفوزه اللافت بترشيح الحزب الجمهوري وعاد ليفاجئهم على نحو أشد بفوزه بالرئاسة. وفي خطاب تنصيبه بدا متمسكاً بكل رأي أبداه أثناء حملته الانتخابية سواء فيما يتعلق بقيود الهجرة واللجوء أو برفضه العولمة أو بانتقاداته حلف الأطلسي، في مقابل مديحه الرئيس الروسي، أو استنكاره التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتركيزه على الحرب ضد الإرهاب، أو بمواقفه المتطرفة في تأييد الاستيطان الإسرائيلي ونقل السفارة الأميركية إلى القدس. وعلى الفور بدأ النقاش يحتدم حول جدل الفرد- المؤسسة، بمعنى هل ينفذ ترامب أفكاره التي تحدث عنها بإصرار في حملته الانتخابية أم أن «المؤسسة» ستتكفل بإعادته إلى ما ترى أنه جادة الصواب؟ وكان ترامب قد بشر الشعب الأميركي بأن سلطته قد عادت إليه، وأن «واشنطن» لم يعد لها وجود. وبعد أربعة أيام من نشر هذا المقال يكون ترامب قد جلس مئة يوم في البيت الأبيض، فكيف تبدو ملامح الإجابة على السؤال السابق: الفرد أم المؤسسة؟ من الواضح حتى الآن أن «المؤسسة» تتصدر السباق بامتياز، فقد تصدت لأهم توجهات ترامب المتعلقة بالهجرة فأبطل القضاء أمرين تنفيذيين له بمنع مواطني دول معينة من دخول الولايات المتحدة وقد توعده ترامب بمعركة في المحكمة العليا لم تحدث حتى الآن! ثم أحبط الكونجرس الذي يتمتع بأغلبية فيه أيضاً محاولته إلغاء قانون أوباما للرعاية الصحية الذي شن عليه هجوماً ضارياً إبان حملته الانتخابية، وفي مسألة نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس انتصرت الخارجية الأميركية المعترضة دوماً على هذا النقل. صحيح أن عدداً من الزعماء العرب شرحوا له وجهة النظر العربية حول التداعيات الخطيرة لقرار كهذا، ولكن من المعروف أن الخارجية الأميركية كانت ترى دوماً الرأي نفسه. وفي قضايا السياسة الخارجية الأخرى، وتحديداً الموقف من بؤر التوتر المشتعلة في العالم، لم يكن حضور المؤسسة العسكرية لافتاً فحسب وإنما سار في اتجاه معاكس للانطباع الذي أوجده ترامب عن سياسته الخارجية وكأنما ينوي الانكفاء على الداخل فيما عدا محاربة الإرهاب، فإذا بالقوة الأميركية تسجل حضوراً قوياً في جميع ساحات المواجهة فتوجه ضربة صاروخية لقاعدة جوية سورية، وتضرب في أفغانستان بأم القنابل وتوجه قوتها البحرية نحو سواحل كوريا الشمالية. وقد خلقت هذه التحركات في مجملها مناخ مواجهة وتوتر لم يكن متوقعاً. ويُضاف إلى ما سبق أن «المؤسسة» تكفلت بإفساد خطط ترامب لتقارب مع روسيا مبني على إعجابه برئيسها بعد أن وجهت المؤسسة الأمنية اتهامات لروسيا بالقرصنة الإلكترونية لدعم فرص ترامب في الفوز. كما أن تأكيد ترامب على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول تراجع على ضوء ما سبق، ولم يتبق له سوى الحرب على الإرهاب، وهي حرب لا فضل له في المبادرة بشنها، وحتى هنا من الواضح أن «المؤسسة» تدخلت لكبح اتجاهه نحو اعتبار «الإخوان المسلمين» جماعة إرهابية. ربما يعود إلى هذا الجدل بين الفرد والمؤسسة كثير من الارتباك والتشوش وتعديل المواقف وتغييرها في إدارة السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً، ففي غمار الانتقال من الأفكار غير المألوفة لترامب إلى الخطوط المؤسسية الراسخة وقع الكثير من الارتباك والتضارب، ومن المؤكد أن بعض التحولات في سياسات ترامب الخارجية يلائمنا ولكنه من المؤكد أيضاً أن بعضها سيربكنا. ومن الملائم أن نركز من الآن على القوى الفاعلة والعوامل المؤسسية في فهم سياسات ترامب جنباً إلى جنب مع متابعة تصريحاته وأفكاره، كي لا تفاجئنا خطى وتحركات غير متوقعة يمكن أن تسبب لنا إرباكاً في قضايا حيوية بالنسبة لمصالحنا.