رأيت من المناسب التمهيد هنا بملاحظتين عابرتين ذواتي دلالة وظيفية ونقدية للنقاش الذي أطرحه. الأولى شخصية وتعود إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي عندما قرأت كتابيْ «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية» لإدواد سعيد لأول مرة، أثناء دراستي ماجستير نظريات وإبستمولوجيا العلاقات الدولية في لندن. وبعد قراءة الكتابين، أصابتني حيرة شديدة إزاء بعض أفكار سعيد، من دون التقليل بطبيعة الحال من حجم الإضافة الأكاديمية والمعرفية التي قدمها. وفي سياق كتابة البحث اطلعت على ما كتبه صادق جلال العظم من نقد في كتيّبه «الاستشراق والاستشراق المعكوس». منحني الكتيب الثقة الكافية لأتحرر من هيبة ووطأة سعيد وأفكاره وأُقاربها بموضوعية نقدية من دون الانبهار الكلي. الملاحظة التمهيدية الثانية لها علاقة بدرس تعلمته من إدوارد سعيد نفسه ومرتبطة عضوياً بالملاحظة السابقة، وتقوم على مقولة عميقة له في كتابه «الثقافة والإمبريالية»، وشدد عليها في كتاب «تمثلات المثقف» تقول: «لا تضامن من دون نقد». انتقل بعد ذلك إلى بعض جوانب السجال الذي أطلقه العظم حول الاستشراق، بدءاً بالنص الشهير الذي نُشر في مجلة «الحياة الجديدة»، في بيروت عام 1981، ونُشر بالإنجليزية في أكثر من مكان. انتقد العظم أولياً ومبدئياً تصور وتصوير سعيد للاستشراق بكونه المؤسسة الكلانية الثقافوية الغربية التي أنتجت في نهاية المطاف الاستعمار. سعيد، الناقد الأدبي الذي اعتمد في «الاستشراق» على تفكيك نصوص غربية أدبية، قدم وعياً عميقاً للتصورات الغربية الأدبية، ولكن هذا الوعي كان وظل وعياً «نصوصياً» (textual)، أي إن أسّه وجوهره قائم على ما كتبه روائيون ومسرحيون وشعراء. والمشكلة ليست هنا، بل في رؤية سعيد بأن هذا الوعي النصوصي الغربي أصبح ثقافة شاملة ومؤسسة فاعلة قادت وأدت إلى حركة الاستعمار. على الضد من هذا الوعي النصوصي، قدم العظم وعياً سياقياً للغرب (contextual)، جادل من خلاله بأن الاستعمار مشروع توسع تاريخي حفزته قوى ودوافع سياسية واقتصادية وهيمنية أهم بما لا يقارن من أي تأثيرات لـ «نصوص وكتابات الاستشراق»، وأبعد بكثير من نسبة انطلاق هذا الاستعمار نتيجة تأثيرات ذهنية غربية عن الشرق. وربطاً بما سبق، ينتقد العظم أطروحة سعيد القائلة إن جذر الاستشراق الغربي المُستعلي على الشرق يعود إلى الماضي الإغريقي الذي أسس لهذا الاستعلاء وللازدراء المستديم الذي تواصل حتى اللحظة الراهنة. وفي المقابل يحصر العظم الاستشراق في حدود تاريخية ويراه ظاهرة حديثة مرافقة لبروز أوروبا البرجوازية وحركة الاستعمار، ولا يراه رؤية أزلية غربية ثابتة. واعتماداً على جوانب هذا السجال المُشار، يمكن أن نرى بوضوح نزعة الأنسنة عند العظم والانفكاك من ثنائيات غرب- شرق. ومنظور العظم يؤنسن حركة الحياة والتاريخ البشري وفق حركة عريضة مشتركة تتجاوز التخندق المتأبد بين الثقافات والحضارات. إضافة إلى ذلك، طرح العظم في معرض نقده لسعيد مفهومين: الأول «ميتافيزيقيا الاستشراق»، والثاني «إبستمولوجيا الاستشراق». ميتافيزيقيا الاستشراق تعني تحويل واقعة تاريخية متحولة إلى حقيقة أنطولوجية ثابتة لا تتغير. و«إبستمولوجيا الاستشراق» تقول إنه بسبب الطبيعة الثابتة والجامدة للشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية، فإن المناهج العلمية والبحثية التي أنتجها الغرب لا تنطبق عليها، ولا يمكن تحليل مشكلات وظواهر هذه المجتمعات تبعاً للمناهج العلمية والتصورات السوسيولوجية القائمة. وكلاهما يختصان بفعل واشتغال الاستشراق في الذهنية والتصور الغربي. ما يمكن أن نضيفه هنا هو مفهوم آخر يختص بفعل واشتغال أطروحة الاستشراق السعيدية في الشرق ذاته، وتحديداً في الفضاء العربي والإسلامي، وهو «إيديولوجيا الاستشراق»، وأقصد بها: تحول «الاستشراق» إلى إيديولوجيا ناظمة للنظرة إلى الغرب وتعامله مع العرب والمسلمين: كل سياسة، ممارسة، تعامل، احتكاك، تبادل معرفي أو غير معرفي، يوصم بأنه ممارسة استشراقية، وبالتالي يتم إغلاق منافذ الاستفادة من الغرب والانفتاح عليه. والخلاصة هنا أن «إيديولوجيا الاستشراق» نصبت سداً منيعاً يرفض استقبال أي نقد بزعم الدفاع عن الأصالة والذات والهوية. وشكل ذلك انقلاباً معرفياً شاملاً على فكر عصر النهضة ممثلاً بالأفغاني وعبده والكواكبي، وتناغم مع العداء المؤدلج للغرب بدعاوى اكتمال «نموذج الذات» واكتفائه بتاريخه وثقافته وعلومه.