في 8 مايو المقبل، ستشهد بريطانيا تنظيم انتحابات مبكرة قد تبدو لأول وهلة شبيهة بكل جولات الانتخابات التي سبقتها. وجاء موعدها أقرب بقليل مما كان منتظراً لأن رئيسة الوزراء تيريزا ماي أرادت أن تمنح نفسها هامشاً أوسع من تفويض الرأي العام البريطاني لها خلال المحادثات المقبلة مع الاتحاد الأوروبي حول تفاصيل إجراءات الانسحاب منه. إلا أن مثل هذه الانتخابات «المفرقعة» ليست غريبة عن المشهد السياسي في بريطانيا. وكثيراً ما نُظم مثلها خلال القرن الماضي، وكانت، كحال الانتخابات المقبلة التي أرادتها «ماي»، تدور بين «حزب المحافظين» الذي يمثل وسط اليمين، و«حزب العمال» الذي يكرّس توجهات وسط اليسار. إلا أن الشيء المختلف هذه المرة هو أن الحزبين لا يتنافسان على احتلال الموقع «الوسطي» أو المنطقة السياسية العازلة بينهما، بل ستكون معركة بين حزبين سيظهران قدراً كبيراً من «الجنون» والتطرف، ويمكن وصف المعركة بكلمة أخرى بأنها ستدور بين أقصى اليمين المتطرف، وأقصى اليسار المتطرف. ويجدر بنا أن نلاحظ أيضاً أن «حزب المحافظين» بزعامة «تيريزا ماي» يختلف عن «حزب المحافظين» تحت رئاسة «دافيد كاميرون»، والذي حقق في عهده انتصارات مشهودة عام 2015، ولكنها أصبحت طي النسيان. ولم يعد الحزب بزعامة «تيريزا ماي» يكتفي بانتقاد الوحدة مع أوروبا، بل إنه سيعمل على إبعاد بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي باستخدام أقوى الوسائل والسبل التي يمتلكها، وسوف يقطع كل الروابط الاقتصادية والتجارية والقانونية معها بطريقة لم يسبق لأي زعيم لحزب «المحافظين» أن فكر فيها منذ سبعينيات القرن الماضي. ولقد تمكنت «ماي» من كتم أصوات المدافعين عن مشروع «التحفّظ الأخضر» لدافيد كاميرون، واستولت على الأجندة المضادة للهجرة لـ«حزب الاستقلال»، وهو حزب هامشي سادت مخاوف ذات مرة من أن يصبح منافساً للحزبين الرئيسيين (المحافظين والعمال). وتم استبدال جناح الوسط في «حزب العمال» الذي كان يقوده توني بلير، بجناح شبه ماركسي يقوده جيريمي كوربين (زعيم المعارضة)، وهو الذي سيخوض الحملة الانتخابية المقبلة بأجندة تستند على خطة لزيادة الضرائب وتشجيع الإنفاق، والعمل ليس فقط ضد الاتحاد الأوروبي، بل ضد حلف «الناتو» والولايات المتحدة وجميع المنظمات التجارية المتبقية من دون أن يوفر المنظمات الدولية وحلفاء بريطانيا التاريخيين. ويدعو كوربين بريطانيا إلى التوقف عن اعتبارها دولة تمتلك قدرات الردع النووي. ولقد ظهر في العديد من المرات وهو يتحدث عبر القنوات التلفزيونية التابعة لحكومتي روسيا وإيران، وله سجلّ طويل في دعم «الجيش الجمهوري الأيرلندي» يعود إلى الحقبة التي كان يمارس فيها هذا الجيش هجماته الإرهابية على الأهداف البريطانية. وفي هذا الوقت بالذات، سنشهد ظهور نوع مختلف من الراديكالية في اسكتلندا، وحيث ستبرز في مقدمة المشهد الصورة القوية لـ«الحزب الوطني الاسكتلندي» المؤيد للاستقلال عن الاتحاد البريطاني. ولعل من الغريب أن تتفق هذه الأحزاب الثلاثة على شيء واحد، فكلها أعلنت عن أنها تحارب من أجل الشعب ضد «نخبة» لا هوية لها ولا يعرفها أحد، وكلها تقدم لمؤيديها نوعاً جديداً من هوية الانتماء حتى بات في وسع فئات الناخبين من ذوي المشارب المختلفة أن يقدموا أنفسهم إما باعتبارهم «دعاة الانسحاب» من الاتحاد الأوروبي، أو المدافعين عن طبقتهم، أو عن انتمائهم لاسكتلندا، أو غير ذلك من الانتماءات، ولو كنت تتساءل عما إذا كانت «الشعبوية» لا تعدو أن تكون مجرد استراتيجية سياسية مصممة بحيث تنتخب أي حزب مهما كانت الأيديولوجية التي يتمسك بها، فسوف تكون قد عثرت على الجواب بنفسك حول حقيقة ما يحدث. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»