والكل ينادي: الحوار! مد الأيادي! المصافحة! المصالحة! والكل يستجيب. ولا أحد يرفض. حتى القتيل يريد أن يمد يده للقاتل حقنا للدماء، والدماء تسيل! فمهما ادعى فريق أنه على حق، وادعى الفريق الثاني أنه على حق أيضاً، إلا أن الدماء التي تسيل من كلا الطرفين، حرام إراقتها. فلماذا تفشل دعوات الحوار؟ ولما يرخص الدم مهما عظمت جنازة الشهيد؟ 1- يصعب الحوار نظراً لتمسك كل طرف بالمواقف المبدئية التي تشبه العقائد الإيمانية أو الفرق الدينية. والحقائق مطلقة، يستشهد من أجلها المؤمنون بها. وهي أقرب إلى الآمال التي يرجو الناس تحقيقها. ولا توجد مطلقات دون صياغات إنسانية كأشكال للتعبير. فالُمطلقات لا تتحدث عن نفسها. المعاني في حاجة إلى ألفاظ. وإذا ضاقت الألفاظ ظهرت المجازات والصور الفنية والتشبيهات. وهي اختيارات لغوية تتوقف على القدرات الأدبية للكاتب والقارئ. واللغة حتى ولو كانت الألفاظ حقيقة وضع إنساني وليست مُطلقات. 2- وقد يعتمد كل طرف على التقليد وعلى سلطة القدماء وبراهين التاريخ. وكأن ما حدث في الماضي لابد أن يحدث في الحاضر وفي المستقبل. فالسلف خير من الخلف. وما ترك الأسلاف للخلف شيئاً. وقد يكون هذا أوضح عند الإسلامويين، ولكن العلمانيين أيضاً لديهم نماذج مسبقة من الليبرالية والقومية والاشتراكية والماركسية. فالحاضر تمثـُّـل للماضي. 3- ويعتمد كل طرف على سلطة النص المكتوب أي النقل بتعبير القدماء. يوجب الطاعة والانحناء. وتمتد سلطة النص إلى كل نص، نص الأب أو الأخ الكبير أو الوزير أو المعلم أو المدرس أو المربي أو الزعيم. هي سلطة «سي السيد» التي لا يستطيع أحد تحديها أو تفاديها. 4- ويصعب الحوار عندما يغيب الآخر ويكتفي الأنا بالحديث مع نفسه. فالحوار لا يكون إلا مع آخر. أما الحوار مع النفس، وسماع ما يحب الإنسان سماعه فإنه يكون مونولوجاً أي حديث نفس، والآخر جزء من الذات. سُمي أحياناً في الفقه القديم «أهل الكتاب» أي الذين يشاركون في قراءة الكتاب. كما يسمون «أهل الذمة» أي الذين هم في ذمة المسلمين، حماية لهم من أي عدوان عليهم. 5- ويصعب الحوار عندما تكون الحقيقة واحدة في تصور البعض. وهو وهمٌ كبير لأن الحقيقة متعددة. وقد يُنظر إليها من وجهات نظر مختلفة. الحقيقة منظور. هي أقرب إلى نظرية المعرفة أي رؤية، حقيقة من خلال الذات، وليست حقيقة في ذاتها. وهو ما يسمى بالنسبية. والنسبية في حقيقة الأمر تقوم على إنكار الحقيقة الموضوعية ولا يبقى إلا الحقيقة الذاتية التي تتغير بتغير الذوات الغارقة في الأهواء والميول والرغبات. وهو ما يعترف به المسلمون بقولهم «الله أعلم». فما يعلمه الإنسان نسبي. وإن كان البعض يضع نفسه في صف الحقيقة المطلقة فإنه يستحيل الحوار معه، لأنه يجعل النسبي مطلقاً أي يجعل نفسه مقياساً للحقيقة، وممتلكاً لها كاملة. وهذه التعددية النظرية تنعكس في الواقع في التعددية العملية التي تبدو في التسامح وفي التعاون وفي الحوار الهادئ من أجل الإثراء المتبادل وتبادل وجهات النظر. 6- والتعددية لا تعني النسبية إذ إنها تستند على افتراض حقيقة أعلى. وهو ما يسمى بالتعالي، أي البحث عما هو أعلى من أجل الوصول إلى التوحيد. فما يهم هو التقدم المستمر والبحث عما هو أعلى باستمرار حتى يصبح الحوار ممكناً. فالحوار ليس مجرد تبادل للمصالح والأخذ والعطاء بين وجهات نظر مختلفة بين قوى سياسية متضاربة بل الوصول إلى ما وراء الحوار في التعالي المستمر. فالتعالي عملية يقوم بها الإنسان حتى يمكنه الوصول إلى الآخر. إذ يجتمع هو وإياه في حقيقة أعلى. يمد كل طرف يده إلى الآخر الذي يمد يده هو الآخر فتلتقي اليدان في حقيقة أعلى جامعة. ويصعب الحوار إذا ظل على مستوى تبادل المصالح، يتم الحوار فيها بمنطق «خذ وهات» ويسهل بمنطق التعالي أي الاجتماع معا في حقيقة أعلى تلتقي فيها الأطراف. يصعب الحوار إذا ظل سياسياً دون أن يذهب إلى الما وراء الفلسفي الذي يستند إليه. يصعب الحوار السياسي لغياب ثقافة الحوار الفلسفي. فإلى متى؟