اكتشف باحثون مؤخراً عظاماً متحجرة في كينيا تعود إلى أشخاص تعرضوا لمجزرة منذ نحو عشرة آلاف سنة. وتبين وقائع المشهد وجود هياكل بشرية مقيدة بالأغلال وبعضها محطمة الجماجم. وقد لا يحتاج الإنسان في القرون المقبلة للبحث عن مثل هذه المقابر الجماعية لمعرفة مدى العنف الذي يمارسه إنسان القرن الحادي والعشرين.. وما قبله. فالمقابر الجماعية تحدد مواقعها اليوم الأقمار الصناعية، ويجري الكشف عنها في الوقت المناسب لإدانة المرتكبين، كما حدث في البوسنة في التسعينيات من القرن الماضي «مجرزة سيبرينتشا»، وكما يحدث اليوم في سوريا والعراق.. وقبل ذلك في الكونغو وناميبيا. ومع ذلك فإن الأبحاث العلمية والتاريخية تكاد تجمع على أن الإنسان اليوم على رغم كل ما يواجهه من عنف وإرهاب ومن حروب وصراعات دموية، ليس أفضل حالاً، ولا هو أقل سوءاً مما كان عليه في السابق. فالمؤرخ الفرنسي روبرت موشيمبلد يقول في كتاب له عنوانه «تاريخ العنف: من نهاية العصور الوسطى حتى اليوم»: «إنه بين عامي 1650 و1960، عرفت أوروبا كيف تكبح جماح غريزة العنف»، وذلك على رغم الحروب التي عصفت بها بما فيها الحرب العالمية الأولى والثانية. ويفسر هذه الظاهرة أيضاً الأميركي ستيفن بنكر، أستاذ علم النفس في جامعة هارفرد، في كتابه: «لماذا تراجع العنف؟». فيقول إن عدد ضحايا المعارك المسلحة في العالم شهد انخفاضاً كبيراً، إذ يبلغ 0.5 فقط من كل مئة ألف عسكري مقاتل في العام وطوال العقد الأول من القرن العشرين. ويفسر ذلك بأن هذا التراجع في عدد الضحايا يعود إلى تراجع الحروب بين الدول منذ عام 1945. أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ويقدم المؤلف الأرقام الإحصائية التالية لتأكيد نظريته، فيقول إنه خلال الحرب الكورية التي استمرت أربع سنوات في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، بلغ عدد القتلى مليوناً من الجنود. وخلال الحرب الفيتنامية التي انفجرت بعد عقد من الزمن، سقط 1.6 مليون آخرين من الجنود، على رغم أن هذه الحرب استمرت تسع سنوات فقط. ويقارن المؤلف بين نسبة ضحايا الحربين الكورية والفيتنامية، بنسبة ضحايا حرب الخليج والحرب الإثيوبية الإريترية. ويقول إن حرب الخليج الأولى 1990- 1991، أسفرت عن مقتل 23 ألف جندي فقط، وإن الحرب بين إثيوبيا وأريتريا 1998- 2000، أسفرت عن مقتل 50 ألف جندي، طوال هذه السنوات الثلاث. وينبّه المؤلف في دراسته إلى أن التراجع النسبي في عدد الضحايا لا يعني بالضرورة تحقق السلام، أو حتى تقدم فرص تحقيقه. أما الحروب الداخلية فهي التي تحصد العدد الأكبر من الضحايا. ويقدم المؤلف مثلاً على ذلك، الكونغو. فالحرب التي عصفت بهذه الدولة أسفرت عن مقتل 5.4 مليون شخص قبل أن تتوقف في عام 2008. وهناك مثل آخر جارٍ يتمثل في المأساة السورية التي تجاوز عدد ضحاياها 350 ألفاً حتى الآن. ويؤكد المؤلف أن العدد الأكبر من الضحايا يسقط في الدول الفاشلة، حيث تتعدد جبهات التقاتل الداخلي على خلفيات عنصرية أو دينية، أو على خلفيات مصالح وزعامات من أجل تحقيق أهداف وهمية. كما يحدث في ليبيا مثلاً منذ مقتل معمر القذافي. فالعراق مثلاً الذي يقدر عدد ضحاياه جراء الحرب الأميركية الثانية (2003) بحوالي 112 ألفاً، خسر أضعاف هذا العدد منذ انسحاب القوات الأميركية.. ولا يزال النزيف البشري مستمراً تحت عناوين مختلفة ومتعددة.. ليس في العراق وحده، ولكن في اليمن وليبيا، وفي الصومال وجنوب السودان.. إضافة إلى سوريا. ويحدد الدكتور بنكر ثلاثة أسباب يقول إنها تفجر عمليات القتل هي: الحروب الأهلية، الصراعات الإثنية والسياسية، والإرهاب. ومن المؤسف أن هذه الأسباب الثلاثة تلقي بكلكلها الحالك فوق مساحة واسعة من العالم العربي، حتى ليبدو هذا العالم بما يشهده من ارتفاع غير مسبوق في عدد ضحايا العنف، وكأنه يمثل حالة استثنائية للنظرية الاجتماعية التي تؤكد أن نسبة العنف قد تراجعت في المجتمعات المختلفة في طول العالم وعرضه.