لو كان هذا العام مثل أي عام آخر، لكانت الانتخابات الألمانية الوشيكة مشابهة لأي انتخابات أخرى: مجرد استحقاق تغلب عليه الرتابة، ويركز في غالبية الأحيان، وبشكل حصري، على القضايا الداخلية. وعلى رغم حجم ألمانيا، وقوتها الاقتصادية، فإن الألمان يقاومون فكرة رؤية بلدهم -أو مستشارتهم- كقائدة محتملة للعالم. فعلى رغم مرور ما يزيد على سبعة عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن ألمانيا ما زالت تبدي عدم ارتياح لأي شيء يتعلق بمفهوم Fuhrung، أو «القيادة» باللغة الألمانية. ولكن هذا العام ليس كمثل أي عام آخر. فبانتخاب دونالد ترامب رئيساً، تخلت أميركا عن دورها التقليدي كقائدة للعالم الحر. فسياسته القائمة على مبدأ «أميركا أولاً» في مجال العلاقات الخارجية، واستخفافه الصارخ بالقانون الدولي، وهجومه المستمر على الاتحاد الأوروبي، و«الناتو»، وعلاقاته التي تتسم بالدفء مع روسيا، ولا مبالاته بأسس نظام العالم الحر، الذي بُني، وحُفظ من قبل الولايات المتحدة، تعني في مجملها، أن واشنطن قد لا تكون قادرة بعد الآن، على توجيه مجتمع الدول لديمقراطية. كان من الطبيعي أن تكون بريطانيا التي قادت العالم الحر في الماضي، هي أول المتقدمين للحلول محل أميركا، ولكن قرارها بترك الاتحاد الأوروبي، جعلها هي أيضاً تبدأ مرحلة من الانكفاء على نفسها، قد تنتهي بها للتحول في نهاية المطاف من بريطانيا العظمى، إلى إنجلترا الصغرى. أما فرنسا، فقد حجزت لنفسها مكانا «مستقلاً» -أو لنقل أحادياً- في الشؤون الخارجية، كما أن رئيسها المحتمل القادم إيمانويل ماكرون مجرد سياسي شاب مبتدئ لا يتجاوز عمره 39 عاماً. وفي هذه الأوقات المضطربة، وغير القابلة للتنبؤ، تبرز المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كزعيمة ذات مواقف ثابتة، وسياسية يمكن الاعتماد عليها. وميركل التي تخدم في ولايتها الثالثة، كأكبر مسؤولة منتخبة في دولة تمتلك أكبر اقتصاد في أوروبا، باتت هي الشخص الوحيد، الذي ما زال موجوداً في الساحة الدولية، ويمتلك المؤهلات الكفيلة بمواجهة أضخم حزمة من التحديات، تواجه الغرب منذ انتهاء الحرب الباردة. وميركل لديها سجل من الدفاع عن المثل التي تميز العالم الحر، كما يتبين بوضوح من البيان المختصر، الذي هنأت فيه ترامب بعد فوزه في الانتخابات، وقالت فيه: «إن ألمانيا والولايات المتحدة ترتبطان معاً بقيم الديمقراطية، والحرية، واحترام القانون، وكرامة الإنسان، بصرف النظر عن أصله، ولونه، وديانته، ونوعه، وميوله الجنسية أو آرائه السياسية». وأضافت في بيانها: «إنني أعرض على الرئيس القادم للولايات المتحدة تعاوناً وثيقاً، على أساس هذه القيم». وبخلاف العديد من الساسة الغربيين، ليس لدى ميركل التي تربّت في ألمانيا الشرقية الشيوعية، أية أوهام بشأن نظام الرئيس فلاديمير بوتين. وعندما يتعلق الأمر بأي من القضايا العالمية، بما في ذلك أزمة الهجرة، ومحاولة روسيا لتقويض النظام الأمني الأوروبي، فإنه يمكن الوثوق بميركل، كسياسية تؤسس قرارها على مبادئ ليبرالية. ومنافس ميركل الرئيس في الانتخابات القادمة، سياسي ينتمي للتيار الديمقراطي الاشتراكي، يدعى مارتن شولتز، شغل في السابق منصب رئيس البرلمان الأوروبي، وهو منصب يعد الشخص بالكاد لدخول العالم الذي لا يتقيد بنظام أو قانون، والخاص بفن حكم قوة كبرى. وعلى ميركل، من جانبها، أن تقر بأن الانتخابات الفيدرالية الألمانية تحمل مضموناً عالمياً، من دون أن يؤدي إقرارها بذلك إلى تخويف الناخبين. فأي شيء تقوله أو تفعله، ويؤكد على دور خارجي أكثر قوة لألمانيا في الشؤون الخارجية، سيقود على الأرجح إلى اتهامات، بأنها تريد أن تستغل نفوذ بلادها، وتفرض نفسها على الآخرين.. ونحن نعرف ماذا حدث لبرلين في آخر مرة فعلت فيها ذلك. والألمان بحاجة للتغلب على نفورهم من القيادة العالمية، فبلدهم ليس سويسرا عملاقة، ولا يستطيع أن يكون كذلك. وفي أحدث استطلاع للرأي أجرته «بي. بي. سي»، تبين أن ألمانيا هي الدولة التي تحظى بأكبر قدر من الإعجاب في العالم. وجيرانها الذين كانوا يخشون في السابق من العسكرة الألمانية، مثل دول وسط وشرق أوروبا، باتوا يطالبون الآن بإلحاح بوجود عسكري ألماني أكبر على أراضيهم لردع التدخلات الروسية. وفي حين أن الألمان، قد لا يقدرون الدور المهم، الذي لعبته بلادهم، ومستشارتهم في صيانة نظام العالم الحر، إلا أن الكرملين يدرك هذا الدور بالطبع، وهو ما يمكن تبينه بوضوح من الجهود الدائبة التي بذلها خلال السنوات الماضية للإساءة لسمعة ميركل، واتهامها بأنها مجرد دمية، ومُمَكّنة لدولة المراقبة الأميركية، وامرأة متهورة مصممة على تدمير أوروبا، من خلال جلب أعداد لا حصر لها من اللاجئين. لقد قام الشعب الألماني، بعمل يدعو للإعجاب في مواجهة أهوال الماضي، ولكن لا ينبغي أن يدع ميراث الماضي، يعوقه عن الدفاع عن الإنجازات الصعبة التي ساعدت بلاده أوروبا على بنائها، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومصير العالم الحر يمكن أن يعتمد على ذلك أيضاً. جيمس كيرشيك: كاتب أميركي، مؤلف كتاب: نهاية أوروبا: طغاة، وديماغوجيون، والعصر المظلم القادم ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»