تطور مفاجئ وواعد في المشهد السياسي لأميركا اللاتينية، ذلك الذي جسّده قرار تبنّته المكسيك بدعم حركة التحول نحو الحكم الديمقراطي في فنزويلا. وعندما سمعت هذا الخبر للمرة الأولى لم أتمكن من استيعابه بسهولة، لأن هذه الظاهرة الجديدة لجنوح المكسيك نحو التوجهات الديمقراطية تمثل تناقضاً صارخاً مع تعاليم الحزب الحاكم للرئيس المكسيكي إنريك بينيا نييتو «الحزب الثوري الدستوري»، الذي يدعو إلى التضامن مع الديكتاتوريات اليسارية التي تحكم بعض دول أميركا اللاتينية بما فيها القوى السياسية الحاكمة في فنزويلا. وحتى لو افترضنا أن هذا التحول المفاجئ لا يرتبط باستراتيجية جديدة للرئيس بينيا نييتو تهدف إلى عقد صفقة تجارية دسمة مع الولايات المتحدة، فستكون لها تداعياتها الكبرى في مجال الدفاع الجماعي عن الديمقراطية في المنطقة. وفي هذا السياق يقول «خوسيه ميجيل فيفيانكو» رئيس قسم أميركا في مجموعة الدفاع عن حقوق الإنسان: «بعد كندا، أصبحت المكسيك الدولة القائدة للجهود الإقليمية الجديدة لمنظمة الدول الأميركية التي تسعى إلى إعادة الديمقراطية إلى فنزويلا. وسيكون لهذا العمل وزنه السياسي الثقيل في المنطقة كلها، لأنه سيساعد على إعادة الحكومات المترنّحة والهشّة كتلك التي تحكم البرازيل والتشيلي والأوروغواي، إلى الطريق القويم». وخلال معظم تاريخ «الحزب الثوري الدستوري» الذي تأسس في عام 1929 وحكم المكسيك دون انقطاع لمدة 71 عاماً من القرن العشرين، كان حزباً سلطوياً ذا ميل واضح للاستبداد. وتميزت سياسته الخارجية بالرفض القاطع لتوجيه الانتقادات للدول الاستبدادية، تطبيقاً لمبدأ عدم التدخل في شؤون الغير. وفي حقيقة الأمر، لم يكن هذا المبدأ إلا بمثابة الذريعة لدفع الدول الأخرى بعيداً عن الانتهاكات السياسية التي يرتكبها النظام السياسي القائم في المكسيك ذاتها منذ اندلاع الثورة الكوبية الشهيرة في عام 1959. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الحكومات المكسيكية المتعاقبة لـ«الحزب الثوري الدستوري» من أهم مصادر دعم وتأييد كوبا. ولكن، كانت هناك استثناءات، ومنها ذلك الذي شهدناه عندما أمر الرئيس المكسيكي الأسبق «إرنستو زيديللو» وزيره للخارجية بمقابلة سياسيين منشقين عن الحكم في كوبا في عام 1999. إلا أننا لم نشهد بعد ذلك الشيء الكثير من الاستثناءات الأخرى. وتباعدت المسافة السياسية بين المكسيك وكوبا بشكل أكبر في عام 2000 عندما أصبح «فيسنتي فوكس» أول رئيس للمكسيك من خارج «الحزب الثوري الدستوري» منذ 70 عاماً. وكان وزير خارجية الرئيس الجديد «خورخي كاستانيدا» من الطراز الجريء، حيث راح يكيل الانتقادات العلنية للنظام الاستبدادي القائم في كوبا. وأطلق حملة تهدف لتركيز السياسة الخارجية للمكسيك على دعم التوجهات الديمقراطية في المنطقة. ولكن، عندما فاز بينيا نييتو في الانتخابات الرئاسية لعام 2012، وأعاد بذلك حزبه «الثوري الدستوري» إلى السلطة، أعادت المكسيك العمل بسياستها الخارجية التقليدية. وخلال العام الماضي (2016)، لم يفعل بينيا نييتو شيئاً في هذا الصدد أكثر من إلقاء خطاب أثنى خلاله على الفضائل السياسية للرئيس الكوبي الراحل فيدل كاسترو أثناء دفنه في كوبا. ووصفه في خطابه بأنه «مثال ونموذج يحتذى للأخلاق الكريمة»، وتحدث عن «صداقة المكسيك الثابتة» مع كوبا. وقبل ذلك بعامين، أعلن بينيا نييتو أيضاً عن إسقاط 70 في المئة من الديون المستحقة للمكسيك على كوبا، وتبلغ 341 مليون دولار. ولكن الآن، تقود حكومة بينيا نييتو جهوداً مع بعض دول المنطقة للضغط على فنزويلا للتحول نحو نظام الحكم الديمقراطي. وقد أعلن وزير الخارجية المكسيكي «لويث فيديغاراي» أواخر الشهر الماضي أن المكسيك ستلعب دوراً فعالاً في الجهود الدبلوماسية الرامية للضغط على فنزويلا لإجراء انتخابات حرة. وبعد ذلك ببضعة أيام، تمكنت المكسيك أيضاً من دفع منظمة الدول الأميركية للموافقة على مشروع قرار قوي اللهجة يدعو إلى «العودة إلى التمسك بالقيم الديمقراطية في فنزويلا». وقال سفير المكسيك في المنظمة «لويث ألفونسو دو ألبا» في خطاب وجهه إلى المجلس الدائم لمنظمة الدول الأميركية، إنه قد بات من الضروري أن تفرج فنزويلا عن كل سجناء الرأي والسياسيين، وأن تعمل كل ما في وسعها لاحترام حقوق الإنسان، وتحترم المواعيد الانتخابية التي تتضمن إجراء انتخابات جهوية خاصة بالمناطق المختلفة، وأن تؤمن الحاجات الغذائية والطبية لكل السكان من دون استثناء. وانتشرت شائعات في الحلقة الدبلوماسية المكسيكية تقول إن التوجه المكسيكي الجديد لدعم الديمقراطية إما أن يندرج ضمن الجهود الهادفة لدفع الرئيس دونالد ترامب باتجاه إحياء المحادثات الخاصة باتفاقية التجارة الحرة لدول شمال أميركا NAFTA، أو أن تكون جهوده جزءاً من صفقة تم التوصل إليها بين «فيديغاراي» وصهر الرئيس ترامب «زوج ابنته» جاريد كوشنير. خلال المحادثات التي جرت بينهما. وفي رأيي، أنه مهما كان الدافع وراء هذا التحول، فهو مؤشر جيد أن تقف المكسيك هذا الموقف المعادي للديكتاتورية والمدافع عن الديمقراطية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفس»