في أوقات الأزمات، تمثل المصداقية الورقة الرابحة للرئيس الأميركي. وهي التي تحكم على درجة شكوك الشريك الأجنبي في صحة أحكام الرئيس. وتكون أكثر أهمية بكثير عندما يكون الشريك في حالة شك من أقوال الرئيس. ومع القرار الذي اتخذه الرئيس ترامب بمواجهة تحديات قضيتي كوريا الشمالية وسوريا، يتوجب عليه الآن تخطّي حفرة المصداقية التي صنعها لنفسه. ويكمن جزء من المشكلة في أن نقرات أصابع «السيد ترامب» على موقع تويتر لا يمكنها أن تقاوم اندفاعه، ونختار من بين تغريداته الجمل التالية: «إن كوريا الشمالية تتصرف على نحو بالغ السوء»، و«إذا رفضت الصين مساعدتنا، فسوف نضع حلاً لهذه المشكلة من دونها»، و«لن نسمح أبداً بتحقيق كوريا الشمالية لرغبتها بامتلاك الصواريخ البالستية عابرة القارات». وقال نائب وزير الخارجية في وصفه: «ترامب يثير الخلافات والاستفزازات بتصريحاته الهجومية». وتحمل تغريدات ترامب في طياتها خطراً يكمن في احتمال أن تأخذها كوريا الشمالية على محمل الجدّ، وبما قد يؤدي إلى تداعيات لم تكن في الحسبان. كما أن التهديدات المتكررة وغير الواقعية بتنفيذ ضربات وقائية ضدها، يمكن أن تدفع بالرئيس الكوري الشمالي «كيم جونج أون» إلى توجيه الأوامر بتنفيذ ضربته من دون التفكير بالعواقب الناتجة عن هذا العمل. وربما يبادر إلى مهاجمة كوريا الجنوبية بالأسلحة التقليدية حتى يذكر العالم بالمقدرات العسكرية المتنوعة، التي يتمتع بها لو حاولت الولايات المتحدة تعطيل برنامجه لصناعة الأسلحة النووية. ويعتبر هذا السلوك مدخلاً سريعاً للتورط في صراع مجهول النتائج مع عدو مسلح بالأسلحة النووية. ومن الممارسات الأخرى المثيرة للإشكاليات السياسية، العلاقات المشوبة بالتحدي والتهديد بالإيذاء التي يكثر «السيد ترامب» من الحديث عنها، ونكاد نعايشها كل يوم. ومن أشهرها اتهاماته المتكررة للرئيس السابق باراك أوباما بالتجسس على هواتفه، وبأن الهجوم الإرهابي الذي حدث في السويد كان وهمياً، وبأن ألمانيا مدينة لحلف «الناتو» بمبالغ ضخمة، وبأن أوباما أطلق سراح 100 معتقل من سجن غوانتانامو عادوا بعد ذلك إلى شن ضرباتهم، وبأن «الديمقراطيين» اختلقوا قصة التدخل الروسي للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية. ويمكن لهذه الروايات المختلقة للسيد ترامب أن تقوّض قدرته على مواجهة الافتراءات التي يطلع بها أعداء أميركا. وكان الرئيس على حق عندما عاقب نظام الأسد في سوريا بسبب استخدامه للأسلحة الكيميائية. إلا أن هذه الطريقة في الرد أنقذت الأسد وحلفاءه الروس من حملة الإدانة الواسعة على الفظائع التي ارتكبوها. وتنوّعت تكتيكاتهم في الرد وقدموا سيناريوهات بديلة للرواية الحقيقية الصادرة عن الإدارة الأميركية. ومن ذلك مثلاً زعمهم أن طائرات أميركية هي التي قصفت مخازن تابعة للإرهابيين تحتوي على غاز السارين، حتى يوهموا العالم بأن الدلائل التي قدمتها الولايات المتحدة على وقوع هذا الفعل الشنيع مفبركة. وقال الأسد تعليقاً على صور الأطفال الذين كانوا ينازعون الموت: «لا ندري أين لقى هؤلاء الأطفال حتفهم، وهل تراهم ماتوا بالفعل؟». ويعتبر الروس أساتذة في هذه اللعبة، حيث ركزوا على عنصر التلفيق في هذه القصة حتى يثيروا البلبلة في أوساط الرأي العام العالمي. وتطوع العشرات لنفي تلك «الشائعات» عبر شبكة قنوات «روسيا اليوم» الإخبارية التي يديرها الكرملين وتنطق بمعظم اللغات العالمية. وبهذه الطريقة، يصبح أي مصدر جاد لنقل الأخبار والمعلومات موضعاً للشك في عالم السياسة الذي يكاد يخلو من الحقائق الموضوعية أو القاطعة. وخلال الأزمة التي أعقبت الغزو الروسي لشرق أوكرانيا عام 2014، كنت أعمل مع بعض الزملاء في إدارة أوباما على إقناع الناس في البلدان الأخرى بأن الجنود الروس دخلوا بالفعل إلى مدينة «دونباس» عاصمة المنطقة الشرقية من أوكرانيا، وبأن موسكو تقوم بتسليح وتوجيه الانفصاليين، وبأن هؤلاء الانفصاليين هم الذين استخدموا منصة لإطلاق الصواريخ حصلوا عليها من روسيا لإسقاط طائرة الركاب الماليزية، وهو ما أدى إلى قتل كل ركابها. وكنا قد قضينا ساعات طوالاً ونحن نتحاور مع رجال المخابرات حول المعلومات التي يجب علينا استبعادها قبل نشر هذه الأخبار، معتمدين في ذلك على تلك المبنية على الحقائق الثابتة، والتي يمكن أن يقتنع بها حلفاؤنا وأن تعتمد عليها الصحافة. والذي حدث بعد ذلك هو أن الأبواق الدعائية للسيد بوتين جعلت مهمتنا أصعب بكثير مما كنا نتوقع. إلا أننا كنا في ذلك الوقت نعتمد على ورقة رابحة اسمها «مصداقية الرئيس أوباما». وكان الرؤساء الأجانب يثقون بما يقول حتى لو كانوا لا يؤيدون سياساته. واشتهر الرئيس جون كينيدي بالتمسك بقيم المصداقية الرئاسية في عزّ أزمة الصواريخ الكوبية عندما أرسل مبعوثين إلى حلفاء أميركا في شهر أكتوبر 1962 لضمان تأييدهم لأميركا. وكلّف لهذا الغرض ذاته وزير الخارجية السابق «دين أتشيسون» للتكفل بإقناع شريك واشنطن المهم في أوروبا الرئيس شارل ديجول. وعندما عرض «أتشيسون» على ديجول الصور التي التقطتها طائرات التجسس الأميركية، والتي تؤيد خبر نشر الاتحاد السوفييتي للصواريخ النووية في كوبا على بعد 144 كيلومتراً عن الشواطئ الأميركية، ما لبث الرئيس الفرنسي عندما سمع هذا العرض أن قذف بالصور بعيداً، وقال: إنه لا يحتاج لمثل هذه الدلائل الدامغة، وأضاف: «إن أي كلمة تصدر عن رئيس الولايات المتحدة تحمل في طياتها الدليل الذي يقنعني». وسوف يفعل «السيد ترامب» حسناً لو استقى العبرة من هذه القصة. أنتوني بلينكن: مساعد وزير الخارجية في إدارة أوباما ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»