في هذه الأيام السوداء، التي تمر علينا وتكاد تحول وطننا العربي إلى شعلة من نار ساحقة، نبحث عن خطاب عقلي رشيد في تاريخنا القريب والبعيد، لعله يساعد في إطفاء تلك الشعلة وفي التأسيس لحالة من الوحدة الوطنية والقومية العربية. في هذه الحال «نكتشف» المفكر العروبي التنويري عبدالرحمن الكواكبي (1854-1902). فهذا المفكر عاش مرحلة عصيبة من الصراعات الدينية في وطنه، جعلته يكتشف أن الخروج منها يقتضي التمسك بخطاب عقلي عروبي يلتفّ الجميع عليه، وهو ذاك الذي يتأسس على الوحدة العروبية دون الدينية، وإن ظل متأسساً على التسامح الديني، فقد لاحظ أن الخطاب الديني يمكن أن يفرق بين مجموعات مختلفة دينياً. لقد وضع عبدالرحمن الكواكبي يده النازفة حتى اليوم، بسبب تدخلات جاءت من هنا وهناك في الغرب، كما الشرق، وأحدثت شرخاً عميقاً في حياة العرب، بحيث ما إن يأتي مَن يأتي «ليفتح الجراح» حتى نراها أمامنا تهدد وحدة الشعب والأمة، كما يحدث الآن. بل يمكن أن نلاحظ أن الجراح امتدت لتعمّ أرجاء الواقع العربي، وبوتائر غير مسبوقة، مع وسائل تدميرية لم يعش العالم العربي مثيلاً لها من قبل. بل نحن نلاحظ أن وسائل التفكيك للعالم العربي إياه وصلت إلى درجة من العنف والشمول تذكّر بمشاريع التقسيم أيام العثمانيين والفرنسيين بعدهم. بل إننا الآن نعيش في مرحلة يروَّج فيها لأسلحة دمار شامل. ومن ثم، فإن الموقف المتصل بالأمن العالمي قد زاد حِدّة واضطراباً وخطراً، إضافة إلى كونه أصبح أكثر اتساعاً وشمولاً، وأكثر حدَّة وخطورة. وبالمناسبة فقد أدخلنا «داعش» عصر «ما بعده»، عصر الموت المباشر، الذي أعلن نهاية العالم، بتقاليده الدموية إلى الحدود القصوى. إن اجتماع العالم على سوريا يمكن قلبه باتجاه العالم كله من أجل سوريا، وذلك حين يستبدل بالخطاب الديني خطاب إنساني لكل الناس، وهذا يقتضي القيام بجهود دولية متوازية وموحدة تهدف إلى جعل العالم «عالمنا» أولاً وبالدرجة الأولى والأخيرة. والكواكبي يجد هنا بل في كل العالم صداه الإنساني العظيم، وهذا يقتضي من العالم أن يُنتج مِن أمثاله من المفكرين ما يملأ الكون بفضائل الأخوة البشرية، التي قلّما اكتشفها البشر، ولكن دون الدخول إليها إلا من مواقع البشر المتآخين قلباً وقالباً. ولكن أمراً ظل قائماً وفاعلاً مُسهماً في ترك أبواب جهنم مفتوحة على مصائر سوريا وربما العالم كذلك، ونعني به المصالح الاستراتيجية التي تخدم أصحابها في الاقتصاد والعسكرة وأشياء أخرى. فقد كثر الحديث عن المطارات العسكرية التي تعمل ليل نهار، وعن الحافلات التي تنقل الناس من منطقة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى بغاية تغيير الأرض والوطن، وكيف يُغيِّر الوطن؟ ولماذا يُراد لهم أن يغيروا أوطانهم وجلودهم ببقع جغرافية أخرى؟! إني أراهن على أن ما يحدث الآن في الوطن العربي وأوطان أخرى من تفكيك للهويات الوطنية والقومية والديموغرافية عموماً، إنما هو خلل إنساني وكوني يتعدّى على مكوّنات الوجود الإنساني وأركانه. ولكنني لستُ في موقع الرهان على أن ذلك يُفضي إلى أحوال جديدة تتغير بمقتضاها جلود البشر وهوياتهم وآمالهم وأحلامهم، فإن حدث التفكير في ذلك، فإن أمراً قد يحدث يُبشر بأحوال جديدة مُريبة، ومصائر غريبة قد تربك هندسة الأكوان التي نستظل بظلِّها، واصلة بهم إلى ما لا تحسن عُقباه، فإياكم إياكم أن تعبثوا بمصائر صارت حرِّيات لنا!