يخطئ بعض القادة الغربيين عندما يريدون فهم طبيعة العلاقات الدولية بالاكتفاء بقراءة الخرائط التقليدية الجغرافية- السياسية «الجيوبوليتيكية». وهذه القراءة الخاطئة تجعل بعض كبار الفاعلين ينظرون بنوع من الحنين إلى العالم القديم، وإلى صراعاته الكلاسيكية، ويقرون على أنها حبيسة المنطق الترابي أو السياسي أو الاستراتيجي، في حين أن العالم أضحى متحركاً، ومحدداته متخطية لحدود الدولة- السيادة، وفي تنظيم مستمر تحدده التحركات والسلوكات الاجتماعية حول تحديات معظمها اقتصادية- اجتماعية. فخلافاً للظواهر الصراعية التي كانت تطبع فترة الحرب الباردة والعقد الأول الذي تلاها، لم تعد القوة العسكرية الغربية هي المحدد في إخماد صراعات دول الجنوب، فمهما وصلت القوة العسكرية لدولة بحجم الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، فإنه في ظل العولمة ومحددات الفترة الراهنة، فإن هذه القوة لا يمكنها تحقيق الأهداف التقليدية التي كانت تحكم الصراعات القديمة، فبدأنا نشاهد مظاهر شتى لوهن الدول القوية، ومظاهر أخرى لقوة الدول الضعيفة على الساحة الدولية! هذا الوهن الجديد الذي بدأ يسِم القوى العالمية مرده إلى الأزمات المتوالية التي تعرفها محددات هذا النظام الجديد المطبوع باللايقين والمجهول في عالم غير منظم. وصلنا إذن إلى مرحلة جديدة انتقل فيها النظام العالمي من السيادة إلى الارتباط والاعتماد المتبادل بين الدول، ومن قاعدة أولية القوة إلى قدرة الدول الضعيفة أو الصاعدة (اقتصادياً) في زعزعة النظام العالمي القديم، ومن الترابية إلى مسألة «الحراك» و«التحرك» الدائمين، ومن القراءة الكلاوزفيتزية للحرب المبنية على صراع الدول، إلى نوع من الصراع قائم على تفكك المجتمعات الداخلية، وبمعنى دقيق فإننا أمام انهيار النظام الويستفالي الذي بني ابتداءً من سنة 1648. إن دولاً مثل اليابان والصين فهمت هذه القواعد الجديدة، ووعت الأحداث المتوالية التي وقعت بعد نهاية الحرب الباردة، ونجحت في التموقع الجيد في النظام العالمي الجديد، وأجادت عمليات المراوغة اللبقة وقواعد الحذر والرصانة دون تهييج ولا ضجيج، ودون أية رغبة في الهيمنة على الآخر‏? ?كيفما ?كان ?نوعه، ?والتجذير ?لقواعد ?جديدة ?في ?العمليات ?التبادلية. فدولة الصين، كما رأينا في مقالتنا منذ أسبوعين، استطاعت فهم العولمة والارتماء في أتونها بذكاء ونجاح، فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعائي» تسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا اللتين تسعيان إلى تصدير النموذج الغربي، زاعمتين أنه لا يمكن تحقيق أي نجاح دون امتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي، بل أيضاً نموذجها الاقتصادي والسياسي! فالصين، طالما أن أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل، وتمأسس لقاعدة مفادها أن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني بالضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق- عدو» وإنما في إطار «رابح- رابح» ‏win-win. ومنذ أيام سمعنا مثلاً أن اليابان تحاول الإبقاء على اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي عن طريق الضغط من أجل التوصل إلى اتفاقية جديدة دون الولايات المتحدة الأميركية، وتخطط لعقد اجتماع لوزراء الدول الأخرى 11 في فيتنام. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد سحب بلده من تلك الاتفاقية التجارية بعد وقت قصير من تنصيبه في يناير الماضي. وسيكون المتضرر الأكبر على المدى المتوسط والبعيد هو الولايات المتحدة نفسها. وتسيير العالم حسب قواعد، وفي بعض الأحيان حسب أهواء القوى العالمية، لم يعد ممكناً، والنظام الغربي في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لم يعد له نفس الجاذبية ونفس القدرة على التصدير الجاهز.