مسؤولون يُعدمون بوسائل وحشية، وصواريخ باليستية يتم تجريبها بين الفينة والأخرى، وتهديد ووعيد يتطاير في وجه الولايات المتحدة تارة وحلفائها تارة أخرى.. هذا هو الملمح الأبرز لسياسات الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، الذي وصل إلى سدة الحكم عام 2012، ومذاك أجرت بلاده خمس تجارب نووية، أضافت المزيد من التساؤلات حول مصير هذا النظام الذي يرمز بتصعيده الصاروخي والنووي إلى حقبة الحرب الباردة واستقطاباتها.. بالطبع ليس جديداً ما تجريه بيونج يانج من تجارب صاروخية ونووية، لكن الجديد يتمثل في غرابة سلوك «أون»، الابن الثالث والأصغر لكيم يونج أيل الذي توفي في 19 ديسمبر 2011. «أون» من مواليد عام 1984، وهناك روايات تقول إنه من مواليد عام 1983، ولهذا يعد أصغر الرؤساء في العالم، ويُقال إنه تلقى تعليمه في مدرسة «بيرن» السويسرية حتى عام 1998 باسم مستعار هو «باك تشول»، ودرس علوم الحاسب الآلي سراً.. حظي بإعجاب والده الذي وجد فيه قسوة غير موجودة لدى بقية إخوته.. وفي 2009 أُشيع خبر توريث السلطة من كيم يونج إلى كيم جونج أون... لا تزال كوريا الشمالية آخر نظام ستاليني على وجه الأرض، وسياساتها القمعية تجاه أبناء شعبها، جعلت الطاعة العمياء هي الخيار الوحيد أمام الكوريين الشماليين الذين يتعين عليهم الاستجابة للنظام الحاكم وطاعته، حتى لو كلفه ذلك ترويج أساطير، من بينها أن «أون» تمكن من قيادة السيارة وعمره 3 سنوات فقط، وهي رواية يتم تدريسها لطلاب المدارس لإثبات «ثورية» الزعيم الكوري الشمالي، ومن بين المزاعم أنه كان ينتج كتاباً كاملاً في اليوم الواحد طوال فترة دراسته الجامعية بحصيلة 1500 كتاب! غرابة «أون» تتجاوز الأساطير، لتصل إلى مظهره، فقصة شعره اللافتة للأنظار، تعتبر ملزمة للطلاب في بلاده، وحتى وزنه الزائد، أثار بعض المشكلات، من بينها تصريح للسيناتور «الجمهوري» جون ماكين، الذي وصف الزعيم الكوري الشمالي في إحدى المقابلات التلفزيونية بـ«هذا لطفل السمين»، كما انتشرت في الصين تسميته بـ«كيم السمين الثالث».. وأعربت السلطات الكورية الشمالية استياءها من هذه التسمية، ما اضطر الصينيين إلى حجب عمليات البحث عن هذه العبارة من محركات البحث الإلكترونية. وبعد توليه السلطة أمر بوضع لافتة عريضة بطول 650 متراً وارتفاع الحرف الواحد منها 20 متراً تحمل عبارة «يحيا الجنرال كيم جونج أون شمس كوريا الشمالية الساطعة». بداية حكمه كانت دموية، حيث أعدم زوج عمته ووزير دفاعه، ووزير الأمن العام في بلاده. وأعدم 15 مسؤولاً في عام 2015، وازداد حصيلة من تم إعدامهم منذ تولي «أون» السلطة إلى 70 مسؤولاً، وبالطبع الرقم مرشح للزيادة. الإنترنت ممنوعة في كوريا الشمالية؛ لأن النظام يراها تهديداً لأمنه القومي، والاستماع إلى إذاعة تابعة لكوريا الجنوبية عقوبته الإعدام. هذا النظام المنغلق على ذاته، والذي يضيق الحريات على أبناء شعبه، يبدو الآن أنه يهرب إلى الأمام، فليس أمامه سوى التصعيد بالتجارب الصاروخية والنووية، مهدداً الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية ومزعجاً لحلفاء واشنطن في شمال شرق آسيا، من أجل إحكام قبضته على الداخل، وتوفير «عدو خارجي افتراضي» يعزز شرعيته القائمة على البطش ومنطق «عبادة الشخصية». ويبدو أن اغتيال شقيق الزعيم الكوري الشمالي في ماليزيا يوم 13 فبراير الماضي، وما أُثير حوله من شكوك في ضلوع نظام «أون» وراء الجريمة، قد وضع بيونج يانج في مأزق، فرأس النظام الذي لا يريد أن يقف أي شخص في الداخل أو الخارج عقبة في طريقه، أو كابحاً أمام تهوره، أو بديلاً «محتملاً»؛ لذا يريد أن يؤكد حضوره للعالم، وأنه لا يتوقف عن تكديس مصادر القوة العسكرية تقليدية أو غير تقليدية لبث الخوف لدى خصومه وتدشين أداة ردع في وجه الضغوط الأميركية، خاصة أن واشنطن لديها قوات قريبة من بيونج يانج سواء في كوريا الجنونية أو في اليابان، وما نشر أنظمة الدفاع الصاروخي في سيؤول إلا دليل على جاهزية واشنطن العسكرية لصد أي تهديدات كورية شمالية محتملة. كما أن بعض المحللين اعتبر استخدام الولايات المتحدة «أم القنابل» وهو أكبر قنبلة غير نووية، والتي قصفت بها الولايات المتحدة أحد معاقل تنظيم «داعش» في شرق أفغانستان يوم الخميس الماضي رسالة لتهديد بيونج يانج، والتلويح بأن لدى واشنطن وسائل تقليدية قادرة على تدمير أسلحة بيونج يانج، والتحليل نفسه ينطبق على الضربة الصاروخية الأميركية التي طالت مطار الشعيرات في سوريا. ما يلفت الانتباه هذه المرة أن التهور الذي يبديه «أون» في التجارب الصاروخية وفي الاستعراضات العسكرية المتشنجة، لم يقابله دونالد ترامب بـ«صبر استراتيجي»، بل حرك حاملة الطائرات «كارل فينسون» الهجومية على مقربة من شبه الجزيرة الكورية، وذلك رداً على استفزازات كوريا الشمالية الأخيرة. وإذا كانت كوريا الشمالية تدّعي أنها تسعى لتطوير قدراتها النووية بهدف تأمين الدفاع عن النفس ولضمان السلام والأمن في شبه الجزيرة الكورية، معتبرة ذلك «حقاً سيادياً لها»، فإنها قد تدفع حلفاء واشنطن الأكثر انكشافاً في المجالات الدفاعية، إلى إعادة النظر في قدراتهم العسكرية، ما قد يفتح الباب أمام سياسة يابانية أوكورية جنوبية جديدة، قد يترتب عليها سباق تسلح نووي في شمال شرق آسيا، يغير المشهد الجيوسياسي في آسيا وربما يقلبه رأساً على عقب. الاستعراض العسكري الكوري الشمالي الذي تزامن مع ما يعرف بـ«يوم الشمس»، 15 أبريل، يوم ولادة «كيم إيل سونج، وهو جد أون»- قد تضمن تصريحات مفادها أن بيونج يانج مستعدة للرد بالسلاح النووي على أي هجوم مماثل قد يستهدفها، وأن كوريا لشمالية مستعدة للرد على حرب شاملة بحرب شاملة، في رد غير مباشر على تصريح لترامب يقول فيه، إنه «سيعالج مشكلة كوريا الشمالية». التحدي الجوهري الذي يطرحه «أون» مرتبط أيضاً بتوازنات إقليمية يصعب خلخلتها، من بينها أن الصين لا تريد كوريا الشمالية دولة فاشلة يتدفق منها اللاجئون صوب الأراضي الصينية، كما أن بكين أهم حليف لبيونج يانج قد لا يروقها حل أزمة بيونج يانج النووية، ومن ثم إحلال السلام بين الكوريتين تمهيداً لتوحيدهما، ما قد ينجم عنه ظهور قوة اقتصادية عملاقة في شمال شرق آسيا تنافس العملاق الصيني، كما أن الولايات المتحدة لطالما استثمرت التهور الكوري الشمالي في تحالفات وقواعد عسكرية لها في شمال شرق آسيا ضمنت من خلالها انتشاراً يضمن هيمنتها في هذه المنطقة الاستراتيجية القريبة من روسيا. وفي ظل صعوبة المواجهة النووية وعواقبها غير المحسوبة، يظل خيار التفاوض هو الأرجح، لكن بعد أن تنحسر جذوة التهور الصاروخي والنووي التي تصر بيونج يانج على إشعالها.. طه حسيب