أحد السيناريوهات المطروحة في انتخابات فرنسا الرئاسية الأسبوع المقبل، هو فوز «جان ليك مالانشون»، المرشح «اليساري الراديكالي»، واليمينيّة المتطرفة «مارين لوبن» في الشوط الأول من الانتخابات، في الوقت الذي انهارت الأحزاب التقليدية الكبرى، التي تقاسمت النفوذ والسلطة في فرنسا منذ بدايات القرن العشرين. ليست الظاهرة خاصة بفرنسا، بل هي ملاحظة في كل البلدان الغربية التي تعيش أزمة تحول ديمقراطي في مستويات عديدة، سواء تعلق الأمر بطبيعة المسار الانتخابي، أو تركيبة الأحزاب السياسية، أو نمط العلاقة بين الحقل السياسي والحركية الاجتماعية العامة. لقد لخص «بيار روزنفالون» هذا الواقع بقوله:«إننا نعيش في بلدان ديمقراطية، لكننا لا نعيش تحت الديمقراطية»، وهو يعني بهذه المقولة، الانزياح المتزايد بين الأشكال الإجرائية للتنظيم والانتخاب ونمط الممارسة السياسية العملية، أي نظام الحكم الذي لم يعد يخضع في أدائه للمبادئ الديمقراطية. والواقع أن سحر الديمقراطية، من حيث هي مثال الحرية والمساواة، قد غطى دوماً على الإشكالات العويصة التي تطرحها نظرياً وعملياً، بحيث نادراً ما يتم الوقوف عند أسباب تفرد المجتمعات الأميركية الشمالية والأوروبية الغربية بهذا النموذج في نسخته المكتملة، والوقوف في ما وراء هذا الإشكال عند قدرة هذا النموذج في سياقه الأصلي على الاستمرار. صحيح أن النظرة الليبرالية الكلاسيكية واكبها دوماً إيمان قوي بأن الديمقراطية التعددية هي مصير البشرية التاريخي، وهي التعبير الموضوعي عن قيم الحداثة والعقلانية والتحرر الإنساني، بيد أن الفكر الليبرالي ذاته انتبه مبكراً إلى التعارض شبه الثابت بين مثال الديمقراطية التحرري وقدرتها على التجسد في هياكل مؤسسية تضمن المساواة الاجتماعية، وتلغي الهيمنة والتحكم الفردي. ولقد كان عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» يقول إن الديمقراطية هي في آنٍ واحد نظام عقلاني حر ومنظومة لشرعنة الهيمنة. في مقولة الديمقراطية معنيان متعايشان، وليسا متلازمين بالضرورة: معنى المشاركة الذي هو من آليات التنظيم السياسي، ومعنى الحرية الذي لا ينحصر بالضرورة في الحرية السياسية بمعناها التمثيلي الانتخابي، أما الامتزاج بين القيم الليبرالية ونظام المشاركة التعددي، فهو الخصوصية الكبرى للتجربة الغربية الحديثة والتساؤل مطروح حول استمراريته. في كتابه المهم «حياة وموت الديمقراطية»، يذهب الفيلسوف الأسترالي «جون ماكين» إلى أن الديمقراطية من حيث هي نظام سياسي ليست جديدة، ولا هي إنتاج غربي، فلقد نشأت في شكلها المباشر (المجالس التداولية) في الهلال الخصيب، كما أنها ظهرت في شكلها التمثيلي في شبه الجزيرة الأيبرية في القرن 12 «هبة إسلامية للعالم الحديث»، وما نشهده اليوم هو انتهاء الديمقراطية التمثيلية التي ارتبطت بعصر المطبعة، أي الكتاب والجريدة والبريد، وانبثاق «ديمقراطية الرقابة»، التي تتناسب مع المجتمعات المتشبعة إعلامياً، حيث تزعزعت كل الهياكل السياسية التقليدية. ما يبينه «ماكين» هو أن الديمقراطية الليبرالية ليست الشكل الوحيد الممكن لربط الحرية بالمشاركة، فثمة اليوم ديمقراطيات تمثيلية تنتفي فيها الحريات السياسية (روسيا، تركيا)، وثمة ديمقراطيات تتحقق فيها أعلى نسب المشاركة، دون نظام انتخابي تعددي (الصين مثلاً)، وهناك ديمقراطيات ليبرالية من حيث طبيعة النظام السياسي، وإن كانت بنياتها الاجتماعية تراتبية تنعدم فيها المساواة الاجتماعية (الهند مثلاً). ما تتميز فيه الديمقراطيات الغربية ليس إذن نمط المشاركة وحجمها، فكل الدراسات الاجتماعية أثبتت أن الكفاءة الإدماجية في الديمقراطية التعددية لا تختلف كمياً ولا نوعياً عن الأنظمة السياسية الأخرى، وإن اختلفت قواعد وهياكل تدوير النخب السياسية والبيرقراطية، كما أن منظومة الحرية ليست متجانسة موحدة، فلا علاقة مباشرة بين الحريات الفردية، التي لا تتحدد إلا بالسلب والنفي وحرية المشاركة في طابعها المؤسسي الإيجابي، بل إن خصوصية النموذج الغربي تكمن في تجربة السلم الأهلي المستقر المتولدة عن نجاعة آليات التداول العمومي، وآليات التداول السلمي على السلطة. المفارقة الكبرى التي نعيشها راهناً هي أن الثورة المعلوماتية الجديدة بدلاً من أن توطد حركيّة التداول الجماعي الحر، أفضت إلى تقويض شفافية وموضوعية الحقيقة العمومية (حقبة ما بعد الحقيقة)، وبدلاً من أن تعزز أطر المشاركة أضعفت كل الوسائط التنظيمية في الحقل السياسي، والخوف كله يتمحور راهناً حول رصيد السلم الأهلي المهدد بالنزعات الشعبوية واليمينيّة المتطرفة الصاعدة وخطر الإرهاب الزاحف.